يتعجب ناشرونا من التحول الذي اصاب الثقافة العربية وسوق الكتاب على الخصوص، وهم يذهلون للعناوين المطلوبة والكتابات المحببة والثقافة المستهلكة. فما يضرب الارقام القياسية من مبيعات المعارض الكبرى اليوم، هي كتب المطبخ والتجميل والرياضة. وتزداد دهشة الناشر عندما يرى ان الكتاب الذي كان يأبى نشره حتى وقت قريب، والذي تردد في قبوله قبل نشره، يراه قد نفد وان طبعاته الثانية والثالثة تتلاحق بسرعة مهولة. وهذا يتم بطبيعة الحال على حساب الكتب "الجادة" التي كانت تطلب في وقت غير بعيد مهما كان حجمها، ومهما بلغ ثمنها. الظاهر ان هذه الظاهرة ليست الا مظهراً من موقف اكثر عمومية وانتشاراً يكاد يطال الثقافة المعاصرة بمختلف مظاهرها وفي شتى انحاء العالم، فالثقافة اليوم اميل الى الخفة والتسلية واللعب. ولعلها من أجل ذلك تتلبس السياحة والترفيه. دليل ذلك دمج معظم تلفزيونات العالم الثقافي بالترفيهي، وربط الانشطة الثقافية في معظم انحاء المعمور بالاحتفالات السياحية والمهرجانات الرياضية. لكن المثير للانتباه عن الناشرين عندنا هو نظرتهم اللانتقاصية لتلك الكتب التي تتناول المواضيع التي اشرنا اليها كالمطبخ والرياضة. ولا بد ان نشير هنا الى ان الثقافة العربية ما زالت، على رغم ذلك، "متخلفة" في هذا المضمار. ذلك ان الثقافة المعاصرة تنبهت منذ وقت باكر الى ما يمكن ان ندعوه "روحانية الجسد"، فأخذت تعلي من قيم طالما قمعتها الثقافات التقليدية عند الغرب على الخصوص. ويكفي هنا ان نذكر بصيحة نيتشه الذي لم يكن يبالغ عندما اكد انه "نتيجة الغياب المطلق للعقل داخل المطبخ، فد تعثر تقدم الكائن البشري لمدة طويلة". فالمطبخ يحدد اجساماً وأساليب للعيش وعلائق بالعالم وانماطاً للوجود. ونظام التغذية يكرس ميتافيزيقا بكاملها. على هذا النحو فما نلحظه اليوم في الثقافة العربية من عناية متوافرة بالجسد، واهتمام بالمطبخ والملبس والرياضة، ينبغي بالأولى ان يثلج صدر من يرعون الكتاب عندنا، ومن يسهرون على شؤون الثقافة. اذ ان الامر لا يعني فحسب الميل نحو السهولة والعناية "بالقيم" اللحظية العابرة والنفور من الثقافة "الجادة"، وانما تغييراً لمفهوم الثقافة ذاته ومراجعة لقيمها وتصنيفاتها الى ثقافة روح وثقافة جسد. الا ان المثير للانتباه، على رغم ذلك، هو ان هذه الصحوة الجسدية تصاحب عندنا صحوة اخرى، ربما كانت مضادة، تجعل مَعارض كتبنا تزخر بكتب "الروحانيات" في اقرب اشكالها الى الشعوذة واكثرها تكريساً، لا للخلود الحق، ولا للتجدد اللحظي، وانما للنوم العميق.