على رغم ان الفلسفة لم تسلم من أثر سياسة السوق في الميادين الاكاديمية عامة، لا سيما في البلدان حيث تنتمي الجامعات الى القطاع الخاص، إلا ان ذلك لم يطل سوى بعض الأمور الادارية. كما ان انضواء بعض فروعها "كالاخلاق التطبيقية" و"الفلسفة السياسية" في راهن القضايا التي تعني الجميع، وفي بعض الاحيان من خلال وسائل الاعلام، إلا ان تناولها القضايا ظل محكوماً بالمناهج التي تستعصي في جل الأحوال على مدارك "القارئ العادي". وهكذا فإن كتب الفلسفة تطبع بكميات محدودة، وسوقها على العموم محصور في الميدان الاكاديمي. بيد ان الحال لم تعد كذلك منذ بضع سنوات، فالكتب الفلسفية الموجهة الى الجمهور العريض باتت تشغل حيزاً في المكتبات الى جانب كتب مثل "نقد العقل المحض" و"علم ظهور العقل" و"رأس المال" و"مبادئ الرياضة" و"الكون والزمن" و"الوجود والعدم" وغيرها من المؤلفات التي لا يتوقف عندها إلا من يقصدها. ويعزو البعض نشر كتب من هذا القبيل الى النجاح التجاري الذي حققته رواية الكاتب النروجي جوستين غادار "عالم صوفي". فهذه الرواية تسرد تاريخ الفلسفة في قالب قصصي مشوق يجتذب طلاب المدارس ومن لديه فضول لمعرفة هذا الحقل من دون ان يتحلى بالطاقة على قراءة الفلسفة في ينابيعها الأصلية. وهي ترجمت الى قرابة 14 لغة، من ضمنها العربية. وبلغت مبيعاتها ملايين النسخ. وهذا على الأرجح ما أثار شهية الناشرين الذين أدركوا ان الفلسفة ليست بالضرورة ذلك الموضوع المعقد والممل الذي يعرض عنه القارئ العادي، وانه اذا ما أمكن تقديمها على النحو الذي قدمتها فيه رواية "عالم صوفي" فإن نسبة المبيعات لن تكون مخيبة. وهكذا راح يتوالى صدور كتب فلسفية ميسرة ومصورة كما هو الأمر في سلسلة "للمبتدئين"، أو في كتيبات لا تتجاوز الخمسين صفحة من القطع الصغير، كسلسلة "في تسعين دقيقة" و"فلاسفة الروح" و"الفلاسفة الكبار" التي شرعت في الصدور في مطلع الشهر الماضي. "فوكو بالرسوم المتحركة" أكثر هذه السلاسل اثارة هي سلسلة "للمبتدئين" التي تستعيض عن التبسيط اللغوي الذي تتوسله السلاسل الاخرى بالرسوم التوضيحية الملائمة. وحيث ان هناك الكثير من المواقف التي تدعو الى السخرية فإن بعض الرسوم تنحو نحواً كاريكاتورياً وبعضها الآخر يذهب مذهباً رمزياً أو تعبيرياً وفقاً لما يستدعيه المقام، وهي لا تخلو من الطرافة وروح الدعابة. الى ذلك فهي لا تكتفي بتقديم الفلسفة وفق السياق التقليدي فحسب، أي نسبة الفلسفة الى الفيلسوف، وانما تغامر ايضاً في تقديم تقاليد وتيارات فلسفية وفكرية مختلفة. وهذه السلسلة لا تقتصر على الفلسفة وانما تعنى أيضاً بالأدب والسياسة والقضايا الاجتماعية ولا البيئية. من أفلاطون الى دريدا تسعى هذه السلسلة الى تقديم جل طروحات الفيلسوف من خلال رسوم واسطر قليلة تلخص زبدة هذه الطروحات على نحو تدريجي. وهي لا تكتفي بذلك بل تتطرق الى أبرز مرجعيات الفيلسوف الفكرية كما تعرض لمسيرة حياته، فما في ذلك ما يدخل في نطاق النميمة كما الأمر بالنسبة الى الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو الذي شغلت حياته الخاصة في كاليفورنيا الوسط الاعلامي في حينه. فتقدم كل صفحة من كتاب "فوكو للمبتدئين"، وتحت عنوان محدد، اطروحة أو مرجعاً أو مفهوماً من المفاهيم التي ابتكرها أو وظفها الفيلسوف الفرنسي في عمله بشكل خاص، وذلك من خلال رسم وبضعة سطور توضيحية واستشهاد ينسب الى الفيلسوف، فتحت عنوان "مشروع فوكو" نقرأ: "سعى فوكو الى استعراض الطريقة التي اصبح من خلالها البشر على مرّ التاريخ ذات وموضوع خطابات وتطبيقات سياسية وعلمية واقتصادية وفلسفية وشرعية واجتماعية". ويلي ذلك استشهاد منسوب الى رسم فوكو في زاوية الصفحة: "سؤالي الأساسي: أي شكل للعقل، وأية شروط تاريخية أفضت الى هذا؟". وعلى هذه الوتيرة يتدرج الكتاب متوقفاً عند أغلب محطات فكر فوكو وحياته. ولكن، هل يكفي ذلك للاحاطة بمنجزات الفيلسوف الفرنسي؟ أو حتى للالمام بها؟ من المحقق انه غير كاف، بل ومن المستبعد ان يكون هذا غرض كتاب من هذا المعيار. لكن المثير للخيبة حقاً انه لا يحقق أي غرض ما خلا تزويد القارئ بمعلومات وتعابير جاهزة تصلح للترديد الببغائي. فالمسافة الفاصلة ما بين فوكو بالرسوم المتحركة أو ايسر نصوص الفيلسوف فهماً بعيدة، بحيث لا يمكن الزعم بأن هذا الكتاب يمكن ان يكون حافزاً على قراءة أعماله. "نيتشه في 90 دقيقة". سلسلة "في تسعين دقيقة" لا تتوسل الرسوم اسلوباً لإغواء المعرضين عن الفلسفة، إلا ان اللغة التي تستخدمها في كثير من الاحيان لا تقل كاريكاتورية. وهكذا ففي تقديمه لكتاب "نيتشه في 90 دقيقة" يصور بول ستراثرن الفلسفة في العصر الحديث وكأنهم فرسان جاؤوا مع الفجر ليوقظوا الفلسفة من سباتها العميق. وعن نيتشه نفسه يقول: "مع نيتشه أمست الفلسفة خطرة ثانية، ولكن، هذه المرة، على نحو مختلف. ففي قرون سابقة كانت الفلسفة خطرة على الفلاسفة وحدهم، أما مع نيتشه فأصبحت خطرة على الجميع". الذي لم يقرأ نيتشه من قبل سيظن للوهلة الأولى بأنه سيطلع على سر سلاح فتاك، أو في أقل تقدير سيقرأ محاججة عن الدور الذي لعبه نيتشه في تكوين أدولف هتلر، كما لم يتوان البعض عن الزعم، إلا انه سرعان ما يتحقق بأن الغاية ابسط من ذلك بكثير، فهذا هو الاسلوب الذي ارتأت السلسلة استخدامه بغية الظفر بانتباه القارئ، وبالفعل لا يخفق الكتاب في ذلك، على رغم انه سرعان ما يهجر هذه اللغة طالما ان هناك الكثير في سيرة نيتشه مما يغني عن التشويق المصطنع. ما يخفق في تحقيقه، على أية حال، هو تزويد القارئ بما يكفي للالمام بهذا الفيلسوف. فباستثناء توقفه عند اطروحة "إرادة القوة"، توقفاً على قصره لا يخلو من الانصاف، فإنه يمر على بقية افكار نيتشه مرور الكرام. ما نخرج به في النهاية حكاية اقرب الى حكايات الجن، ولكن، هل كان من الممكن ان يقدم نيتشه في ساعة ونصف الساعة الا كحكاية من هذا القبيل؟ "ديموقراطية الفلسفة" تبدو سلسلة "الفلاسفة الكبار" التي نشر منها حتى الآن دزينة من الكتيبات، أكثر تنبهاً الى حقيقة الصعوبة التي تعترض تقديم فيلسوف. اذ لا شك أن راي مونك محرر هذه السلسلة بالاشتراك مع فردريك رافائيل ومؤلف سيرتي لودفيغ فيتغنشتاين وبرتراند رسل وكل منها 600 صفحة، يدرك ان اختزال مادة دسمة كهذه في كتاب صغير لا يعود بنفع كبير على القارئ، وفي الوقت نفسه، يخفق في ايفاء الموضوع حقه. ولهذا السبب على الأرجح أو كل مهمة تقديم كل فيلسوف، الى أكاديمي متخصص فيه أو واحد من مريديه ملقياً بذلك عبء تقديم كل فيلسوف، ومن الوجه الأنسب، الى من يعتبر حجة فيه. فعهد الى جون كوتنغهام، اشهر من وضع مؤلفات بالانكليزية عن ديكارت، تقديم الفيلسوف الفرنسي، وعهد الى الناقد الماركسي تيري ايغلتون تقديم ماركس... وهكذا. وعلى رغم ان تدبيراً كهذا يسلك طريقاً آمناً في منح كل متخصص أو مريد فرصة تقديم شيخ طريقته على النحو الذي يرتأيه بدلاً من إحالة الأمر الى محترف يزعم الموضوعية "المطلقة" إلا ان حصيلة الأمر لا تخلو من العيوب.