يعتبر (جمال مفرج) الجزائري، أحد أبرز الكتّاب العرب الذين اهتموا بفلسفة نيتشه اهتماماً جيداً، فهو ومع كونه من المدمنين على نقد فلسفة نيتشه؛ إلا إنه ظل ناقداً محايداً لها، ليس بمجامل ولا مداهن، حيث يؤكد مراراً خطأ نيتشه في دعوته إلى التمرد على الله تعالى وعلى الأخلاق، إذ إن كتابه - ذلك الذي صدر من دار (إفريقيا الشرق) في عام 2003 بعنوان: (نيتشه الفيلسوف الثائر) - يؤكد صدق هذا القول، ويؤكد أيضا مدى تعمقه في هذه الفلسفة، لكنّ كتابه (الإرادة والتأويل) هذا الذي بين أيدينا يختلف عن أي من كتبه السابقة التي ألفها، فهو لم يتناول نيتشه بوصفه فيلسوفاً ثائراً، ولم يلتفت إلى دراسة شيء من أفكاره ورؤاه، ولا إلى حياته ونشأته، وإنما جعل كامل حديثه في هذا الكتاب منصباً على خصوم نيتشه الغربيين قديماً وحديثاً وإلى أتباعه من العرب المشرقيين المحدثين المتأثرين به والمخاصمين له أيضاً. إن هذا الكتاب يحكي لنا - إن صح التعبير - طريقة نيتشة في ممارساته البشعة للقطيعة الإبستمولوجية، حيث تبدو لنا فلسفته بلا أي خُلُق ولا أدنى أدب، ويحكي أيضا موقف العرب حيال هذه الفلسفة اللاأخلاقية واللادينية، فإلى قراءة الكتاب. (مع خصومه الإغريقيين) ففي الفصل الأول من الكتاب نجده يتطرق إلى العداءات التي كان نيتشه (قبحه الله ولعنه) (1) يمارسها ضد خصومه، وخصومه كثيرون إلا أن من أبرز هؤلاء هم الإغريق الذين هم - كما يعتقد نيتشه - امتداد للحضارة الشرقية في الهند، ولقد وجه نيتشه إليهم نقداً لاذعاً وقاسياً، ثم إنه لا يجد أبداً عيباً في أن يبدي إعجابه الشديد بالحكمة الشرقية الزرادشتيه، ويعزو المؤلف (جمال مفرج) إعجاب نيتشه بالزرادشتية الروحانية إلى عاملين مهمين،أولاً: أن نيتشه برز بعد أن فقدت المسيحية رسالتها في أوربا، وثانياً: أنها جاءت - أي الزرادشتية وغيرها من الديانات الشرقية الروحانية - كرد فعل مضاد للتأثيرات اليهودية على الحضارة الأوربية، فهي إذن موجة فكرية عارمة جاءت كتعبير عن (أزمة إيمان). ثم إنّ المؤلف بعد ذلك يلتفت إلى أشخاص إغريقيين أو يونانيين تعرض إليهم نيتشه بالنقد، وبالفعل نجده يذكِّرنا بخصومته مع سقراط، فسقراط عند نيتشه هو بداية الانحلال الفلسفي في اليونان بل هو مؤسس الانحلال، وسقراط يعتبر (عاميٌّ من حيث قناعاته، وهو قبيح، ولمنظره صورة الوحوش الخيالية، بل هو رمز القبح في دنيا اليونانيين الجميلة). ولذلك يشك حتى في انتماء سقراط للإغريق، ويُلاحظ نيتشه - علاوةً على ذلك - بأن قبح سقراط يخفي وراءه نزعة إجرامية. وأما خصمه الآخر فهو أفلاطون، فقد وصفه بالانحلال كما وصف أستاذه سقراط من قبل، إلا أنه في النهاية يضع اللائمة والوِزر على الأستاذ؛ حيث إنه قام بتلقين تلميذه أهمية الأخلاق والمنهج الجدلي واحتقار الفن، الأمر الذي جعله مفكراً جدلياً، مع أن أفلاطون ليس أهلاً لذلك كما كانت تعكس ذلك طبيعته. (مع خصومه كانط) لقد وجه نيتشه مديحه إلى كانط كما وجه له أيضا شتائمه، وتتلخص شتائم نيتشه لكانط بأنه لا يعتبر نقده نقداً حقيقياً ولا تقدمه تقدماً حقيقياً؛ وإنما يعتبرهما نوعاً من الشك الماكر، أو السفسطة، لأنه أراد الوصول إلى حقيقة متعالية بوسائل غير فلسفية. ثم إنه بعد ذلك ينتقد فلسفة كانط الأخلاقية ثم فلسفته الجمالية، والذي دفع نيتشه إلى نقد فلسفة كانط هو أنها تعد في نظره استمراراً للدين و(نجاح كانط ليس إلا نجاح لاهوتي) فنيتشه إذا يعتقد بأن (الفلسفة الكانطية استمرار للدين وللبروتستانتية؛ ولهذا فكانط هو في نهاية الأمر مسيحي متستر أو نصف قسيس). ثم يخلص جمال مفرج إلى أن النتيجة المهمة التي أمكننا التوصل إليها، هي أن إعلان نيتشه للحرب على كانط كان بمثابة إعلان الحرب على المسيحية، كما ويخلص أيضا إلى أن نيتشه كان مخطئاً جداً فيما أدلى به من اعتراضات؛ لأن اعتراضاته التي وجهها إلى كانط لا تتقدم بنا إلى الأمام بل تعود بنا القهقرى. (مع خصمه هيجل) يظن البعض بأن نيتشه كان مناصراً لهيجل وأنهما كانا يسيران في نفس الخط لأنهما ينتميان إلى نفس الأصول بسبب انتمائهما إلى هيراقليطس، إلا أن الحقيقة خلاف ذلك تماماً، فنيتشه كان عدواً لهيجل وذلك بسبب المثالية المطلقة التي كان يدعو إليها؛ وإذاعُلِم أنّ فلاسفتها، أي الهيجلية، كانوا أساتذة جامعات فهم موظفون لدى الحكومة إذاً، وهذا لا يصلح أبداً عند نيتشه، وكان يصرح بأن هيجل كان دمية بين يدي الرئيس، يطرق أبواب الدولة ويخدم أهدافها، وقد يكون هذا هو السبب القريب الذي جعل نيتشه يناصب هيجل العداء، إلا أن هناك سبباً آخر أهم، وهو أنه كان يعتقد - عبر إيدولوجيته الخاصة - بأن فلسفة هيجل كانت فلسفة دينية وقد كان يعتبرها وريثة الدين، وبالفعل كانت فلسفة هيجل كذلك إذ إنها كانت تسعى إلى إنقاذ الدين عن طريق الفلسفة أو المصالحة بينهما. لقد انهارت الهيجلية المتأرجحة من الأساس، وطوى اسم هيجل النسيان، وذلك ليس بسبب نيتشه وإنما بسبب الهيجليين أنفسهم، فهو وإن كان ميتاً عند نيتشه فإنه كان ميتاً أيضا وملعوناً لدى الهجليين السابقين واللاحقين. إن ما يدعو للعجب هو أن نيتشه كان هيجلياً في نظر جيل دلوز، ولكن نيتشه كان كالابن العاق لأبيه عند عبدالرحمن بدوي؛ (حيث يرث عنه ملامحه وخصائصه، ويأخذ منه ما فيه من قوى ودوافع ثم لا يلبث أن ينقلب عليه) وقد كان هذا ديدنه مع كل الذين تأثر بهم كشوبنهاور وفاغنر والهيغليين الشبان، فهو وعلى الرغم من كونه لم يتردد في التسليم بنظرياتهم إلا أنه هاجمهم وجحد فضلهم. (خصومته مع العلوم التاريخية) إذا كان نيتشه يحترم ويجل المنهجية العلمية لدى العلماء؛ فإنه بالمقابل ينتقد سلوكهم، فهو ينعتهم بأعداء الحرية وأعداء الحياة ورجال التأمل، كما يصفهم بأنهم أنموذج لسقراط الذي يرفع العقل فوق الحياة. ثم إنه كذلك يشكك في العلم الحديث، ويرى أنه يتخفى خلف قناع (الموضوعية)، وقد استطاع أن ينشئ لنا معناً تاريخياً أسماه (الحس التاريخي) مقابل التاريخ الوضعي، والحس التاريخي: هو العلم الذي لا يستند إلى الدين أو الميتافيزيقا، وأما التأريخ الوضعي: فهو الذي ينفي دور الإرادة الإنسانية في مسار الأحداث، ويؤمن بأن كل شيء بإرادة الله، ثم يضيف (جمال مفرج) معنى ثالث وهو أوسع من هذين المعنيين، وهو موجود عند المؤرخين المسلمين، إنه الابتلاء. (تأثير نيتشه على المفكرين العرب) لقد اهتم المفكرون العرب بنيتشه اهتماماً مبالغاً فيه، ما بين مؤيدين له بالإطلاق وما بين ناقدين له، بدأً بسلامة موسى إلى عباس العقاد وحتى فؤاد زكريا، لكن هذا الاهتمام لم يمنعهم من أن يرفضوا تطبيق منهجه الجينالوجي الذي هو البحث عن الأصل؛ بناءً على رفضه للدين والأخلاق. إنه عندما يتم تطبيق المنهج الجينالوجي في بلادنا الإسلامية فسوف تنتج عنه نتائج خطيرة جداً في عدة مجالات لخصها (جمال مفرج) في ما يلي: أولاً/ في مجال الدين: حيث خرج نيتشه من بحثه الذي قام به بفكرة خطيرة جداً، وهي أن فكرة الألوهية قد (نشأت) (أي أن لها أصلاً تاريخياً) وكان ظهورها من أجل أن تفي بمقتضيات إنسانية خاصة. ثانياً/ في مجال الأخلاق: حيث خلص، أي نيتشه، إلى أن الأخلاق النبيلة التي جاءتنا ليست من عند الله كما هو معروف عندنا نحن المسلمين وغير المسلمين من أصحاب الديانات السماوية. ثالثاً/ في مجال الفلسفة: حيث خلص نيتشه في بحثه حول تاريخ الفلسفة أن الفلسفة هي وريثة الدين بل هي مصاحبة له ومؤيدة لنتائجه. رابعاً/ في مجال المعرفة والعلم والفن حيث ينتهي نيتشه طبعاً إلى نتيجة خطيرة وهي أن الإنسانية تفضل الوهم على الحقيقة وذلك حتى تستطيع احتمال الوجود والاستمرار فيه. بعد ذلك نجد أن المؤلف يسعى إلى تأكيد الرفض العربي لفلسفة نيتشه مستشهداً بالدكتور فؤاد زكريا، الذي يرفض كل فلسفة نيتشه ويضعها موضع النقد في المسائل التي يعالجها. كما إنه ينقل لنا أقوال بعض المفكرين الذين رفضوا أراء نيتشه، تلك التي تمس الدين أو الأخلاق. ثم في آخر المطاف يختم المؤلف حديثة بتجربة هشام شرابي مع نيتشه، إذ إنه كان في بادئ الأمر نيتشوياً متحيزاً، إلا أن أستاذه (أرلوند براجستراسر)في جامعة شيكاغو استطاع أن ينتشله من هذا المأزق. ختاماً فإن الكتاب مع حياديته نوعاً ما، كان يهدف إلى وضع علامات في الطريق، طريق نيتشه، حتى وإن لم يصرح المؤلف بذلك، وذلك حتى نحاول فهم تلك القطيعة المعرفية التي أعلنها نيتشه ضد الفلاسفة اليونانيين والكلاسيكيين، وضد الدين أيضاً، إن قراءتنا لهذا الفلسفة ستظل محفوفة دائماً بالمخاطر، وعلى المفكرين الأسوياء، أن يوضحوا لشبابنا ما لهذه الفلسفة وما عليها، حتى لا تزل قدمٌ بعد ثبوتها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (1) هي نفس العبارة التي قالها البرفسور في عصفورية القصيبي.الإرادة والتأويل تغلغل النيتشوية في الفكر العربي تأليف: جمال مفرج منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم - ناشرون الطبعة الأولى 1430 -2009 الصفحات: 118 بريدة