منذ مطلع النهضة العربية والمحاولات لا تنقطع لتأصيل خصوصية فارقة، تمايز حضاريا وقوميا واعتقاديا وثقافيا وسياسيا ما تنفرد به الهوية العربية في مواجهة غيرها من الهويات. وظلّت هذه المحاولات متصلة في تعاقبها المعاصر الذي أنتج فى مستهله كتاب توفيق الحكيم عن "التعادلية" وزكي نجيب محمود عن "الشرق الفنان". وهو تعاقب لم تتوقف إلى اليوم محاولاته التي تضع إشكال الهوية موضع الصدارة من الاهتمام، سواء من منظور "الحركة العاقلة" إذا استعرنا عنوان كتاب محمد عطا، أو وجهة نظر "الوسطية العربية" إذا استعرنا عنوان كتاب عبدالحميد ابراهيم بأجزائه المتعددة، أو أفق "العمل الديني وتجديد العقل" إذا استعرنا عنوان كتاب طه عبدالرحمن، أو زاوية "نظرية الوساطة في الفكر والفن" إذا استعرنا عنوان كتاب إدريس نقوري. وأغلبها محاولات تؤسس بعض سياق السؤال عن نظرية عربية فى النقد الأدبي، أو نظرية أدبية عربية أو فلسفة عربية، تؤكد حضورنا الفكري والإبداعي، فى مواجهة غيرنا من أمم العالم المتقدم الذي نسعى إلى التخلص من اتباعه وتبعيته. ولا شك أن هذه المحاولات تستحق التقدير لما نسعى إليه من تأكيد هويتنا، والبحث عن خصائصها المائزة في مجالات متعددة. والكثير منها لا يخلو من إخلاص وحماسة الاجتهاد في مجال النقد الأدبي على وجه الخصوص، ولكنه لا يقيم نظرية أدبية أو فكرية متكاملة، ولا يؤسس مذهبا أو حتى منهجا فى النقد الأدبي أو فلسفته الجمالية. ولا يكفي أن يكتب عبدالعزيز الدسوقي عن نظرية عربية فى النقد حتى توجد هذه النظرية متميزة عن النظرية أو النظريات غير العربية، أو أن يكتب يوسف إدريس، قبله، عن مسرح مصري حتى يوجد مسرح مصري يتميز تميزا جذريا عن غيره من مسارح الأمم والشعوب الأخرى. ولن تتحول الثنائيات المتعادية إلى ثنائيات متصالحة حين يكتب عبدالحميد إبراهيم عن "الوسطية" أو يكتب إدريس نقوري عن "الوساطة" مسترجعا دور القاضي عبدالعزيز الجرجاني فى مجال أوسع. ولا سبيل إلى أن ينقلب "الشكل التابع" الذي كتب عنه سيد البحراوي إلى شكل مستقل أو محتوى لأشكال قومية لا تعرف التبعية بالحماسة التي تنقلب بالماركسية نفسها إلى أصولية لا تبقي ولا تذر، فالإشكال أكثر تعقيدا من أن تحتويه أو تفضه حماسة دينية أو قومية أو وطنية أو ماركسية مهما كانت النوايا والمقاصد. والواقع أن هذه المحاولات تنطلق من هاجس إيديولوُي أكثر منه علمي. أعني هاجسا لا يخلو توتره من عصاب التبعية الذي يلوذ، فى آلياته الدفاعية، بما يتوهمه أصلا نقيا أو مبدأ راسخا من مبادئ الثقافة الوطنية التي يدافع بها عن الحضور المهدد للهوية. والأصل في هذا الهاجس مأزق تاريخي يتولد عنه الهاجس صياغة إيديولوُية لإشكال معرفي. هذه الصياغة تستبدل بتحليل العلم تخييل الإيديولوُيا، وبالأقاويل البرهانية الأقاويل المخيلة التي هي نقيضها فى إفادة العلم الذي تلتمس معرفته. وناتج ذلك هو إيقاع الصفة على ما يتناقض والموصوف بها، فى المقايسة المضمرة التي تعطف التخييلي على البرهاني، والوجداني على العقلاني، والانفعالي على التصوري، والسياسي على الثقافي، فترد العلمي على الإيديولوجي بما يستبدل الثاني بالأول، ويستبعد ما يتطلبه الأول من شروط هي في ذاتها مناقضة للوازم الثاني. ولذلك فإن إلحاح السؤال عن وجود نظرية نقدية عربية، إذا قصرنا السؤال على مجال النقد الأدبي دون سواه، هو نوع من إلحاح المنطوقات الخطابية للآلية الدفاعية التي تنبني وتتشكل بالكيفية التى ينبني بها كل فعل إيديولوجي يتجه مبناه إلى غايته، وذلك بواسطة التخييل الذي يراوغ به الفعل علة إنتاجه، ويبِّررُ الغاية من هذا الإنتاج، فى سياقات النقد الأدبي أو غيره من المجالات التي تشبهه، بصياغة منطوقات خطابية، هي هذا النوع من الأسئلة الملحة عن النظرية النقدية العربية أو المحاولات التأصيلية التي تخفي منطلق الفعل الإيديولوجي، وهو الدفاع العصابي عن الهوية القومية أو الدينية أو السياسية في مجال من مجالاتها، والتأكيد الانفعالي لحضورها فى هذا المجال أو ذاك، قياسا على نظيرها الغائب عن سياق الخطاب والفاعل المضمر لمنطوقاته. وبقدر ما يخفي هذا النوع من الأسئلة توجهاته الإيديولوجية، في حماسته العاطفية لاستحضار الهوية وتأكيدها، فإنه يحول دون إدراك العلة الأولى لدوافعه فى عملية الإرسال اللغوي الذي يدل بإلحاحه الظاهر على أسبابه الدفينة، كما يدل على عصابه الذي يفرض الهوية على ما ليس من جنسها. ولا يفارق الإلحاح على الهوية النقدية أو الأدبية وهما معلنا أو مضمرا عن نقاء الهوية القومية مثلا فى علاقتها بغيرها، وتصورها كما لو كانت كاملة العزلة والانعزال، أو كما لو كانت حالا من الاكتفاء الذاتي المتعالي الذي يجتليه تاريخ وهمي، تاريخ لا يعرف معنى الفاعلية المتبادلة للتأثر بالغير والتأثير في الغير بما ينعكس على الذات القومية في حوارها الذي لا ينقطع مع نفسها ومع غيرها. وكما تنقض نظرية المعرفة الإبستمولوُيا هذا الوهم بتأكيدها أن الأنا لا يكتمل لها فعل تعرفها الذاتي إلا من خلال تعرفها غيرها، أو وعيها به في علاقة متبادلة، فإن وقائع التاريخ تنقض الوهم نفسه من منظور تاريخنا القومي ومنظور تاريخ غيرنا من الأمم. أضف إلى ذلك أن قوانين العلم ذاتها تنقض هذا الوهم في تشكلات المعرفة الفردية والجمعية، ذلك لأن الحضارة الإنسانية كالمعرفة الفردية نسق متناص فى كل أحواله وتجلياته وأطواره الموجبة. نسق يبدأ من نقطة أو نقاط تسبقه بالضرورة، ولا ينغلق على نفسه فى علاقته بما حوله من أنساق يأخذ منها بقدر ما يضيف إليها، سواء من واقع معاصرة الزمان أو محاورة المكان. وذلك هو ما يحدد تقدم أو تخلف متغيرات النسق، في متواليات الفعل التاريخي الذي إما أن يستبقي انفتاح النسق على إمكانات الإضافة اللاحقة أو المتلاحقة في الزمن، أو يحول بينه وهذا النوع من الانفتاح، فيتخلف النسق عن حركة التاريخ التي تهجره إلى غيره من الأنساق التي لا تكف عن انفتاح التأثر والتأثير. ويترتب على ذلك أن كل معرفة قومية هي معرفة إنسانية بالضرورة، من حيث هي معرفة تبدأ من حيث انتهت المعارف السابقة عليها، وتنتهي إلى ما تبدأ منه غيرها من المعارف اللاحقة. ولا يقتصر الإسهام فيها على أبنائها إلا بالمعنى الذي تستوعب به الهوية القومية الغالبة غيرها من القوميات المتفاعلة معها والفاعلة في إنجازها الحضاري الذي لا يعرف المدار المغلق للتعصب العرقي. وتظل كل معرفة قومية إنسانية من هذا المنظور، ما ظلت عمليات التأثر والتأثير قائمة بين الثقافات والحضارات التى تزدهر بالمناقلة فيما بينها، وتتقدم بالفاعلية المتبادلة التي تسهم بها أقطار متعددة فى صياغة ملامح تطور العلوم الطبيعية والإنسانية، تلك العلوم التي لا ينبغي أن تعرف التحيزات العرقية أو القومية أو الدينية أو السياسية لأنها تهدف إلى الارتقاء بالإنسان من حيث هو إنسان في حلم تتميم النوع الإنساني كله، ولأنها إذا عرفت هذه التحيزات، أو انبنت عليها، تباعدت عن الصفات المائزة للعلم واقتربت من الصفات المائزة للإيديولوجيا من حيث هي نقيض العلم. ولا ينفي ذلك إمكان أن ينطوي العلم الإنساني على هم قومي أو وطني، أو يتقاطع سؤال الهوية مع سؤال العلم، في هذه المرحلة أو تلك من مراحل العلم، أو في هذا القطر أو ذاك من أقطاره، بل على النقيض من ذلك، فالهم القومي أو الوطني يمكن أن يتحول إلى حافز من الحوافز الفاعلة فى تقدّم العلم، وذلك بواسطة الأسئلة التي تتجسد بها مشكلات ذلك الهم، سواء من منظور الموضوعات المطروحة على الوعي أو المشكلات المتغيرة التى تبحث عن حلول جديدة. أعني الأسئلة الجذرية التي تفتح للوعي آفاقا واعدة من المعرفة التي لا تكف عن وضع نفسها ووضع غيرها موضع المساءلة التي تختبر الدوافع والحوافز، مميزة ما بين رغبة المعرفة التي يضيف بها اللاحق إلى السابق وتخييل الإيديولوُيا التي تراوغ الاتباع بما يوقع في المزيد من التبعية. والبداية في تجذر رغبة المعرفة المناقضة للإيديولوُيا هي أن يتحوّل سؤال الهوية، وهو سؤال مشروع ما ظل بعيدا عن شراك الإيديولوُيا، إلى حافز خلاق على الإبداع الذاتيي فى العلم، وأن يتحرك طموح الإبداع الذاتي فى أفق العلم بما لا يتعارض وهدفه النهائي في دلالته الإنسانية العامة. ومن نافلة القول، والأمر كذلك، تأكيد أن الهم القومي أو الوطني يقع في دائرة اختيار الموضوع وليس المنهج، ومن منظور القانون الخاص الذي لا يتناقض والقانون العام للعلم، وتجسيدا للسؤال المحلي الذي لا ينفي السؤال العالمي بل يضيف إليه. ويؤكد ذلك أن الالتزام القومي أو الوطني للعلم يرتبط بصياغة أسئلة الواقع القومي أو الوطني. وفي الوقت نفسه، مساءلة هذه الأسئلة بما يبعدها عن شراك الإيديولوُيا، ومن منطلق تحديد أولوية المشكلات وليس منطلق رفض النظريات العالمية لأنها غير محلية، فلا توجد نظرية محلية خالصة أصلا، والعلم لا يرتبط بقومية أو دين أو معتقد سياسي ارتباط السبب بنتيجته المباشرة وإلا كانت كارثة مثل كارثة البيولوجيا الماركسية التي ابتدعها ليسينكو وشجعها ستالين. ومحك الهم الوطني أو القومي في معرفية إبستمولوُية العلم ووجوده الأنطولوُي في النهاية هو ما يمكن أن يتحول به ذلك الهم إلى بصيرة يزداد بها وعي الباحث يقظة، فلا يكف عن وضع نوازعه الاستهلالية موضع المساءلة، ولا يتوقف عن وضع النظرية التي يقاربها أو التي يقارب بها موضوعاته الموضع نفسه من المساءلة، فلا يتقبل أي موقف أو فكرة أو مبدأ أو دعوة أو دعوى أو معتقد سابق على فعل المقاربة المنهجية تقبل الاتّباع أو الإذعان أو التصديق الكامل، ولا يمارس النظرية أو يمارس بالنظرية ممارسة التقليد، ولا يغفل عن مراجعة خطوات الممارسة أو مراجعة النتائج المترتبة عليها في كل مرحلة، فذلك هو أصل الإضافة الموضوعية بمعناها المنهجي الخالص. أقصد إلى الإضافة التي لا تفصل فصلا مطلقا بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية والاجتماعية، لأن الذات في هذه العلوم هي إلى حد ما، وبقدر من الاحتراس، بعض موضوعها الذي لا تنفصل عنه، خلاف ما عليه الحال في العلوم الطبيعية أو العلوم البحتة. ورغم ذلك تبقى الموضوعية في العلوم الانسانية أو الاجتماعية الوجه الآخر من الموضوعية في العلوم الطبيعية، خصوصا في عمليات المساءلة الجذرية التي تحرر الوعي من السقوط فى شراك الإيديولوُيا، وتصل القومي بالإنساني، أو الوطني بالعالمي، في الدوائر المتجاوبة التي تربط بين القوميات والأقطار وتجاوزها بما تعود فائدته على كل القوميات والأقطار، سواء من منظور الخاص الذي لا ينفصل عن العام، أو منظور مطامح العالم الفرد الذي لا ينفصل حتى في تميز إفراده عن هموم غيره من العلماء في كل مكان. وذلك هو السبب في أن النظريات العلمية في دوائر العلوم البحتة والعلوم الإنسانية والاجتماعية على السواء لا تنتسب إلى هذا القطر أو ذاك، أو إلى هذه القومية أو تلك، أو إلى هذه الديانة أو تلك العقيدة، فالنظرية العلمية عموما، شأنها شأن العلم في جذر معناه، تنتسب إلى القاسم الإنساني المشترك الذي يصل بين الأقطار والقوميات ويجاوزها في المسمى والصفة، وذلك من حيث مسعاه الذي يمكن أن يبدأ بالخاص لكن على سبيل الوصول إلى العام، أو من حيث مبناه الصوري الذي لا يفارقه التجريد والتعميم في كل الأحوال. ودليل ذلك أننا لم نسمع في تاريخ العلم الإنساني عن علم يوناني أو هندي أو فارسي أو عربي أو ما أشبه على سبيل رد الصفة على الموصوف الذي هو إياها في المشاكلة التصورية بين النعت والمنعوت، وإنما على سبيل مجاز المحلية الذي ينسب الإنجاز إلى مكانه فحسب دون أن يوقع الصفة القومية أو السياسية أو حتى الدينية على ما يجاوزها بحكم تجريده الصوري. ولولا هذا التجريد الذي لا يفارقه التعميم ما تحول العلم الهندي في النسبة إلى المحل لا الهوية إلى علم عربي في النسبة نفسها، ولا انتقلت علوم اليونان إلى العرب الذين بدأوا منها وأضافوا إليها ما تأسست به النهضة الأوربية التي ترتب عليها العلم الحديث، ذلك العلم الذي لا ينسبه أصحابه أو العارفون به إلى هذا القطر أو ذاك من أوروبا أو الأمريكتين أو حتى آسيا وإفريقيا واستراليا إلا على سبيل نسبة الإنجاز إلى محله الجغرافي وليس نسبة هوية العلم إلى قومية بعينها أو وضع سياسي دون غيره.