لا يعدم المرء بين الحين والحين من يسأله سؤالا يكرره الصحافيون الشبان كثيرا، كما لو كان السؤال بعض المقرر الدراسي الذي تعلموه في كليات الإعلام، أو نقلوه عن الذين تعلموا منهم أسرار المهنة، كي يسألوه لنقاد الأدب الذين عليهم الإجابة عن السؤال بما يتوقعه الصحافي نفسه في الأغلب الأعم، ربما لأنه سأل غيرهم السؤال نفسه عشرات المرات. ويقول السؤال في بساطة الصياغة الواثقة من نفسها: لماذا لا توجد نظرية نقدية عربية؟ وأحيانا ينطلق السؤال في صياغة معدّلة أقل مباشرة وأكثر تواضعاً في كلماتها التي تقول: هل يمكن الحديث عن نظرية نقدية عربية؟ وفي أحيان أخرى تكون الصياغة متضمنة إجابة بعينها يسعى السؤال إلى انتزاعها حين تقول كلماته: لماذا لا توجد حتى الآن نظرية نقدية عربية خالصة؟ وهي كلمات لا تتباعد كثيرا عن الصياغة الأخرى التي تقول: لدينا نقاد عرب مثل إدوارد سعيد وإيهاب حسن يسهمون فى رسم المشهد النقدي العالمي، فهل يصح الحديث عن نظرية نقدية عربية استناداً إلى هذه الإسهامات؟ وليس هذا التشكل لصيغ السؤال المتعددة سوى مجلى مواز لمجموعة أخرى من الأسئلة يضمها تشكل ثان يمضي في الاتجاه نفسه، لا فارق بينه وبين التشكل الأول سوى أنه يستبدل بالصفة القومية الصفة الدينية، فيطرح إمكان الحديث عن نظرية إسلامية في النقد، أو نظرية إسلامية في الأدب، مميزا بالطبع بين الأدب الإسلامي وغير الإسلامي في سياقات المحاجة التي يستند إليها الكلام عن الاقتصاد الإسلامي، والطب الإسلامي، وعلم النفس الإسلامي، والمسرح الإسلامي، وغير ذلك من المسميات التي سمعنا عنها في السنوات الأخيرة، ولا نزال نستمع إلى لوازمها في مفردات خطاب التمييز الديني بين العلوم والمعارف والفنون، ضمن عملية التمييز الأكثر شمولاً بين الدولة الدينية والدولة المدنية. ولا فارق جذرياً بين صيغ السؤال عن هوية دينية أو قومية للنقد الأدبي في التحليل الذي يرد صيغ السؤال المختلفة على دوافعها المتحدة، وذلك من المنظور الذي يكشف عن تشكل ثالث لصيغ السؤال نفسه. وهو التشكل الذي يستبدل بالصفة القومية أو الدينية الصفة السياسية المنتسبة إلى معنى بعينه من معاني الثقافة الوطنية في تأويلها الماركسي الضيق. ومثاله ما نقرأه من كتابات متمركسة تنبني على التطرف الحدِّي نفسه، خصوصا في المسعى الذي لا يرى سوى الخصوصية في نفيه القانون الإنساني العام، ويلح على تعريف "الأنا" بإيقاعها موقع النقيض من "الآخر" في كل أحوالها أو أحواله. وتظهر الصفة السياسية دالة في أسئلة هذا التشكل الذي ينقض التبعية بصياغة موازية لآلياتها، ومن ثم يستعيد صفات النقيض الذي يفر منه فيصبح هو إياه في المنظور المقلوب من الصورة نفسها. وذلك ما يمكن أن نراه في سياقات المحاجة التي يصوغها بعض المتحدثين عن "التبعية الذهنية في النقد العربي الحديث" من المتمركسين الذين يرمون بالتبعية كل من يختلف عنهم أو معهم، ساعين إلى تأصيل "مضمون قومي للأشكال الفنية" من وجهة نظر ماركسية جامدة، انطلاقا من الكشف عن مزالق "الشكل التابع" الذي يرونه نقيض "الشكل القومي" المستقل أو المتحرر من التبعية. ويعني ذلك أن التشكلات الثلاثة للسؤال المتكرر في صيغ متعددة تشكلات مختلفة في السطح الظاهر، متفقة في البنية التحتية التي تعود إليها كل صيغ السؤال كما تعود المعلولات المتكثرة إلى علتها المتحدة، فهي دوال متعددة تؤدي الدلالة نفسها من حيث ما يصل بينها من تجاوب الدوافع، وتفضي إلى النتيجة ذاتها حتى لو اختلفت في البواعث الثانوية أو تباينت طرائق المحاجة أو مفردات الخطاب. وتتجلى هذه البنية، أول ما تتجلى، في الصياغة اللغوية المتكررة التي تضع الهوية موضع الصدارة من ملفوظ السؤال، وذلك على نحو يجعل من الهوية الحاضرة في الملفوظ موصوفا لصفة، تومئ إلى نظير غائب يقع موقع النقيض في الأغلب الأعم من سياقات السؤال. وفي الوقت نفسه، ينطوي ملفوظ السؤال على نبرة استنكار أو رفض مضمنة، وأحيانا ظاهرة، لا تخلو من معنى الأمل الذي يتطلع إلى انتقال الهوية المسؤول عنها من صدارة السؤال إلى صدارة الواقع الفعلي الذي دفع إلى توجيه السؤال. ولذلك فإن السؤال في تشكلاته المتعددة أو تجلياته المتباينة سؤال هوية متوترة، تبحث عن سبيل إلى التقدم في تعارضها العلائقي مع آخر يبدو أنه يفرض عليها التخلف. ولا تدرك هذه الهوية نفسها، أو تعي حضورها، على نحو ما يتجلى في سؤالها، إلا في تناقضها مع غيرها، ومن منظور عصابي هو نتاج للتوتر الذي يزيد حدّيته مبدأ الرغبة المسقط على مبدأ الواقع. والعكس صحيح بالقدر نفسه، فالواقع الذي يتولد عنه السؤال هو الوجه الثاني للرغبة التي تتجسد في طرح السؤال سعيا إلى مجاوزة الواقع، والتي تتأول الواقع تأولاً يدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد في آلية التشكل المضاد للدوافع. وآية ذلك أن العملية التي تنفك بها شفرة الصياغة اللغوية للسؤال ليتحدد معناه في ذهن سامعه تعتمد على إطار مرجعي هو سياق مضمر أو معلن من التعارضات الثنائية التي تضع الأنا مقابل الآخر، والهوية إزاء نقيض لها، والحضور في مواجهة الغياب، فتجعل من إثبات الأنا أو حضور الهوية نفيا للآخر وتغييباً لنقيض الهوية، كما تجعل من إثبات الآخر وحضور هويته نفيا للأنا وتغييبا لحضور هويتها. وأحسبني في حاجة إلى القول إن السؤال عن حضور الهوية يعني الشك في هذا الحضور، أو على الأقل وضعه موضع الإشكال الذي يتطلب حلا. كما أن إعلان صفة الهوية في صياغة السؤال يعني الإشارة المضمرة أو الظاهرة إلى صفة نقيضها الذي توميء إليه الصياغة إيماءة الاستنكار والرفض الضمني أو الصريح. وأيا كانت الهوية الموصوفة، في تعدد صفاتها المباشرة أو غير المباشرة، فالعنصر الدافعي للسؤال عنها واحد في كل أحواله، وذلك من حيث تولده عن موقف عصابي متوتر، لا يخلو من لوازم رد الفعل التي لا يمكن فهمها إلا بردها على أسبابها. وهي أسباب لا يخلو منها الموقف الذي يتولد عنه دافع السؤال، خصوصا في تحولاته التي يستشعر معها الوعي الفردي أو الجمعي ما يهدد هويته بأكثر من معنى، أو يتقلص بحضورها في أكثر من مجال، أو ينفي وجودها المستقل في مستوى أو أكثر من مستويات هذا الحضور. ولذلك يضع السؤال هذه الهوية موضع الصدارة من صياغته التي يستنكر بها أو يحتج، ضمنا أو صراحة، على غياب موضوعه عن الحضور في هذا المجال المعرفي أو الفكري، بالقياس إلى نظير الموضوع الذي يقع منه موقع النقيض في علاقات الصياغة اللغوية للسؤال. والمقصد المعلن أو المضمر هو استعادة حضور هذه الهوية، أو إبرازها في مواجهة الهوية أو الهويات المناظرة التي يشير إليها منطوق السؤال أو علاقة مفرداته على سبيل التضمن أو اللزوم. وتقوم هذه الهوية أو الهويات المناظرة، بدورها، مقام النقيض في سياقات السؤال أو إطاره المرجعي الذي لا يفارق الإحساس بخطر يهدد الهوية موضوع السؤال. وذلك هو سبب ما يتسم به السؤال من نبرة مائزة لعلاقاته الدلالية التي تجعل منه نوعا من الاحتجاج على غياب الهوية التي يرفعها توجيه السؤال إلى مرتبة الحضور، وذلك بالقدر الذي تفرض به صياغة السؤال على إجابته أن تكون محاولة لنفي الهوية أو الهويات المناظرة التي يهدف توجيه السؤال إلى إزاحتها من منزلة الحضور إلى منزلة الغياب. وسواء كان سؤال الهوية في هذا السياق ينطوي على معنى قومي يقابل بين نقد أدبي عربي ونقد أدبي أجنبي، أو معنى سياسي يؤسس تعارضا بين ثقافة وطنية وثقافة غير وطنية، أو معنى اعتقادي لتأويل ديني يوقع التضاد بين نظرية إسلامية وأخرى غير إسلامية، فإن كيفية صياغة السؤال نفسها تشير إلى آلية معرفية تتحدد بها هوية "الأنا" المسؤول عنها من حيث هي نقيض لغيرها، ومن حيث هي وعي متوتر بهذا النقيض الذي تقع بعض تجلياته تاريخيا موقع العدو لا الصديق، والذي لم تخل العلاقة به وجوديا ومعرفيا من اختلاط السياسي بالثقافي والعلمي بالإيديولوجي. والنتيجة هي ما يحيل به الوعي المؤرق للهوية انفعال توتره إلى ثنائية متعادية يسقطها على كل شيء، فلا يرى في النظائر أو المتغايرات سوى نقائض خطرة تتربص به. وينقل إشكال حضوره أو عدم حضوره من علاقته بموضوعه الذي هو إياه، في فعل إبداعه الذاتي، إلى علاقته بغيره الذي يغدو نقيضه، في الثنائية المتعادية التي تتحول إلى مبدأ فاعل في عمليات الصياغة التصورية لذلك الوعي الذي لا يثبت هويته إلا بنفي ما يراه نقيضا لها، ولا يتخيل لنفسه حضورا إلا بتغييب غيره عن الحضور من مجاله. ولا يظهر هذا المبدأ بالطبع في لحظات التقدم التاريخي من عمر الأمم، أو مراحل صعود الثقافة أو الحضارة، خصوصا حين تغدو الأنا القومية أو السياسية أو الدينية واثقة من حضورها في الزمن وبالزمن، ممتلئة بإنجازها الفاعل الذي ينفتح بأبواب وعيها على تنوعها الذاتي وعلى تعدد غيرها في الوقت نفسه، وذلك بالقدر الذي يفتح أبواب معارف غيرها وعلومه لها من دون استرابة أو توتر أو نفور من المغاير أو الآخر، تجسيدا لحلم المعمورة الإنسانية الفاضلة الذي راود أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وأبي حيان التوحيدي وابن رشد. ولا يظهر المبدأ نفسه في لحظات التخلف الكاملة والانسحاق الخالص، خصوصا حين يتكاثف الظلام تماما، وتنغلق الأنا القومية أو الدينية على نفسها بالكلية، نتيجة عوامل داخلية وخارجية، فتغوص هذه الأنا في قرارة عزلتها، غير مدركة ما آل إليه حالها في تخلفها وعزلتها، سواء في علاقتها بنفسها أو علاقتها بالآخر المختلف عنها أو المغاير لها. ولكن عندما تبدأ هذه الأنا في مفارقة تخلفها ومغادرة عزلتها، وتأخذ في إدراك هذا التخلف وتلك العزلة نتيجة علاقة صدامية بالآخر الذي يتجسّد حضوراً ملتبساً يجمع ما بين النقائض المراوغة، ولا يفارق احتمالات الخطر والغواية، يظهر مبدأ الثنائية المتعارضة التي تنقلب إلى ثنائية متعادية في غير مستوى من مستوياتها، استجابة إلى حدّية العلاقة بذلك الآخر الذي تعيه الأنا نقيضا، في الوقت الذي تعي نفسها بواسطته من منظور المناقضة لا المغايرة. ويقع ذلك في مفارق الأزمنة التي تجمع ما بين الأضداد، وتصل معاني الرماد والورد باحتمالات الكابوس والحلم في المتصل الواحد الذي يتوتر بين نقائضه. وهو متصل اللحظة التاريخية التي تؤكد بقدر ما تجسّد تمزق الوعي الجمعي بين تيارات متصارعة ورؤى متعادية. أقصد إلى التمزق الذي يمايز بين الإخوة الأعداء داخل الثقافة الواحدة في البحث عن إجابة لسؤال المستقبل، وبين تيارات الثقافة الوطنية وتجليات الثقافة الأجنبية التي ترتبط ارتباطا مباشرا أو غير مباشر بأطماع أجنبية أو خطر خارجي متعدد الأبعاد. وحين تتجاوب مخاطر الخارج والداخل، في موازاة انقسام الداخل نفسه ما بين نقائضه، يشيع مبدأ الثنائية المتعادية بين الأطراف. وتتكاثف الدوافع التي تتحول بالثقافة الوطنية إلى ثقافة مواجهة حدِّية، تنبني حتى في تعارضاتها الذاتية على نزوع قطعي تتشكل به كل المكونات، ويتصل به الأخوة الأعداء في الاستجابة الدفاعية إلى الآخر الذي يورث العصاب بحضوره المستفز. ولكن بما يسقط بنية المواجهة الحدِّية للثقافة على مكوناتها وتياراتها، فيكتسب كل أخ من الأخوة الأعداء فيها صفات النزوع القطعي التي تدني بالأطراف المتعارضة إلى حال من الاتحاد، سواء في حدية الوعي بالمختلف أو المغاير، أو التشكل المضاد للأنا التي تغدو نقيضها من المنظور المقلوب للصورة نفسها. ويلزم عن ذلك ما يؤدي إلى غلبة الصوت الواحد للتيار الأقوى الذي يتولى نفي ما يغايره في الثقافة الوطنية، كما لو كان يقوم بحرب مقدسة يستبدل فيها المغاير الداخلي بالنقيض الأجنبي. وفي الوقت نفسه، يتسلط على كل تيار صوت واحد لا يقبل الاختلاف أو المغايرة في الدائرة النوعية لمجاله، مكررا مبدأ التسلط الذي يعيد انتاجه في كل المكونات التي تستعيد المبدأ التكويني نفسه. والنتيجة هي شيوع نوع طاغ من الاسترابة بين الأطراف المتغايرة على كل مستوى وفي كل مجال، فتتحدد هوية كل طرف بتناقضه مع غيره، وذلك على النحو الذي يستأصل الحوار، ويستبدل بإمكانات المشابهة وقائع المخالفة، ويؤدي إلى تراجع التنوع لصالح الوحدة القمعية المفروضة من الأعلى على الأدنى. وتهيمن نظرة التعصب الأحادية التي تفضي إلى إلغاء المختلف وإقصاء الآخر وتغييب المغاير. وحين يصل عصاب بنية المواجهة الحدية إلى هذا المدى تنغلق التيارات المتقابلة على ما فيها، متصلبة في دورانها حول مركز ثابت يفرض الاتباع والتقليد. وتتشكل أصوليات متصارعة، متباينة، قد تختلف في مفردات خطابها الثقافي، لكنها تتماثل في حركة الدوافع وآليات التشكل.