كلما فكرت في إلحاح أسئلة الهوية، والتنوع اللافت في صيغها، والتكرار الدال للعناصر الثابتة من صفات المسؤول عنه، ازددت يقينا بتشعب أزمة هذه الهوية وتعقدها، وحرصا على اكتشاف المستويات المعرفية لهذا التشعب والتعقد في سياقاته التي تصوغ وعينا بالقدر الذي يصوغها، خصوصا من منظور الصلة المتبادلة بين هذه السياقات والفكر الأدبي والنقدي. ولا يقل إلحاح السؤال عن نظرية عربية في النقد الأدبي أو عن خصائص قومية للإبداع العربي عن إلحاح غيرهما من أسئلة الهوية في هذا المجال أو ذاك من مجالات المعرفة وعلاقات إنتاجها. وأيا كانت الصفة القومية أو الدينية أو السياسية المقترنة بالهوية في هذا النوع من الأسئلة، من حيث دلالتها على الموقف الفكري للسائل والحلم الإيديولوجي الذي ينطوي عليه السؤال، فإن تنوع الصفات ليس سوى مدلولات متعددة لدال واحد لا يفارق دلالته المتكررة الرجع في إشارتها إلى هذه الأزمة. والبعد الأول من أبعاد هذه الدلالة كاشف عن بعض أسباب الأزمة، من حيث هى إشكال وعي متوتر في علاقته بمكوناته وعلاقته بنظائره، سواء من منظور المشابهة التي تدنى بالأطراف إلى أعلى درجة من التقارب، أو المخالفة التي تنأى بالأطراف إلى أبعد نقطة من نقاط التضاد. أقصد إلى أن الوعي الذي يتذبذب بين الصفات المتعددة لهويته داخل ثقافته المحلية، باحثاً عن صفة تتمثل بقية الصفات وتستوعبها في الإشارة إلى هوية متحدة تقوم على التنوع لا الانقسام أو الصراع، هو نفسه الوعي الذي يتذبذب في علاقته بنظائره المغايرة خارج ثقافته المحلية، وفى سياق الثقافة العالمية التي تضعه موضعاً ملتبساً، ضمن ثنائيات التقدم والتخلف، الغرب والشرق، والشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء، المتبوع والتابع. ويعني ذلك أن الأسئلة التي يطرحها هذا الوعي على نفسه في ثقافته، من حيث علاقته بمكوناته التي تتقارب أو تتدابر بوصفها محددات لهذه الصفة أو تلك من صفات الهوية، هى الوجه الآخر من الأسئلة التي يطرحها على نفسه في علاقة ثقافته بغيرها من الثقافات التي تتقارب أو تتدابر، تتألف أو تتحالف، تتفاعل أو تتصارع، تتحاور أو تهيمن على هذا المكون أو ذاك من مكونات الثقافة المحلية، فتسهم في صياغة أسئلة الهوية بما يرد الخارج على الداخل، والعالمي على المحلي، والإنساني على القومي، والعكس صحيح بالقدر نفسه في مناقلة السبب والنتيجة التي لا تفارقها عملية بحث الثقافة عن عنصر هويتها الحاسم أو تأكيد هذا العنصر في مواجهة ما يهددها. وتلك هى العملية التي تدفع الثقافة إلى الإلحاح على أسئلة الهوية من حيث اقترانها بهذه الصفة أو تلك من الصفات التي تبرزها لحظات التوتر أو تدفعها إلى التولد. وسواء ناقشنا هذه الأسئلة من منظور تولدها من صراع مكونات داخلية لوعي يصوغها في انقسامه على نفسه وتمزقه بين نقائضه، فيتوجه بأسئلة هويته في اتجاه هذه الصفة أو تلك، أو ناقشناها من منظور العلاقة بين الثقافة المحلية والثقافة الأجنبية في أبعادها المختلفة التي لا تخلو من تعارض، يدفع إلى إلحاح هذه الصفة أو تلك من صفات الهوية، فإن النتيجة واحدة من حيث دلالتها على أزمة الهوية في علاقتها بوعيها الذاتي الذي لم يواجه تعارضاته أو تناقضاته مواجهة حاسمة، ولم يستقر بعد على صفة جذرية تستوعب التعارض وترفع التناقض في تأسيس وحدة التنوع الخلاّق. ولا غرابة في أن تنعكس حدّة الأزمة التي تعانيها هذه الهوية على علاقات إنتاج المعرفة التي يتأسس بها وعيها الذاتي وتتحدد رؤيته لنفسه، من حيث هو وعي مستقل عن موضوعه وعن العالم الذي ينتسب إليه أو يغدو طرفا فيه. ومظهر ذلك هو ما تنبنى عليه هذه العلاقات من خلط بين الإيديولوجيا والعلم، ومن ثم استبدال الأولى بالثاني في الحالات التي يتغلب فيها مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع، وينتصر فيها التخييل على التحقيق، فيتوسل الوعي بالمقدمات الخطابية أو الأقاويل المخيلة التي هى نقيض الأقاويل البرهانية التي تفيد العلم الثاني في ما نلتمس معرفته. ويصحب ذلك الخلط بين المستويات وردّ الثقافى على السياسى بما يجعله إياه، أو العلمي على الاعتقادي بما يدنى بالطرفين المختلفين إلى حال من الاتحاد التخييلي، واختزال الظواهر المتباينة في تعميمات مبتسرة لا تسمح بالتروي في تأمل لوازمها، واستبدال الخصوص المختزل بالعموم المجرد. ولا يفارق ذلك كله النفور من الاختلاف أو المغايرة أو التعدد، والرغبة في فرض نوع قسري من وحدة الإجماع، وإيثار الاتباع على الابتداع، والتقليد على الاجتهاد، وادعاء امتلاك المعرفة الذي يعني احتكار الحقيقة، ومن ثم إلغاء حرية الإبداع الذاتي وقصر مجاله على دائرة ضيقة تحميه من مخاطر الضلالة. والمفارقة المؤسية التي ينتهي إليها هذا الوعي، في علاقته بأدوات إنتاج معرفته، أنه بدلا من مواجهة الأوضاع والشروط الذاتية التي تجعل من علاقات إنتاج معرفته على ما هى عليه من تخلف، وبدلا من السعي إلى تطوير أدوات إنتاج هذه المعرفة وتثوير علاقاتها بما يحقق تقدمها ويضمن إبداعها الذاتي، فإنه يستبدل بالمواجهة الداخلية المواجهة الخارجية، وبالبحث عن أسباب القصور الذاتي توجيه اللوم إلى الغير، ومن ثم المطالبة بأن يكون له مثل ما لدى الآخر الأجنبي من معارف متقدمة، لكن بما يميزه عن ذلك الآخر ظاهرياً ويحرره من عقدة النقص على مستوى السطح فحسب. والنتيجة هى إسقاط الصفة التي يُلِحُّ عليها هذا المُكَوِّنُ أو ذاك من مكونات الهوية على المجال المعرفي المأمول، وصياغة السؤال الذي ينتقل بالهوية المنعوتة بهذه الصفة أو تلك من الغياب إلى الحضور، لكن من منظور مبدأ الرغبة وليس مبدأ الواقع أو الفعل. والمدلول الأول الذي ينطوي عليه دال هذه العملية يشير إلى وعي يستشعر قدراً غير يسير من الدونية في علاقته بنظائره التي يراها أكثر تقدما منه في هذا المجال المعرفي أو ذاك، فيسعى إلى مساءلة نفسه أسئلة لا يخلو إلحاحها من الإشارة المضمنة إلى الآخر الذي يقع موقع النقيض أو الشبيه. أعني الآخر الذي يفرض حضوره نوعاً من التشكل المعكوس لسؤال الهوية الذي يظل سؤالاً عن الغيرية، خصوصا في معناها الذي ينبني على تضاد عاطفى ينجذب إلى الآخر بالقدر الذي يتباعد عنه. ولا تفارق الذات التي تنطوي على هذا التضاد طرفي ثنائية متضادة لا تهدأ حدتها، سواء من منظور المشابهة المشتهاة التي تحلم فيها الأنا بأن تكون مثل الآخر في الإنجاز أو القيمة في هذا المجال المعرفي أو ذاك من مجالات الحضور، أو منظور التضاد الذي تلوذ فيه الأنا بخصوصيتها المرتجاة، في مخايلة النبع الصافي لأصل الهوية النقية من شوائب الآخر النقيض، حماية للوجود الذاتي من أن يذوب في اتّباع النقيض أو يقع في أسر تبعيته. وسواء كانت الأنا تنظر إلى الآخر من هذا المنظور أو ذاك، في العلاقة الملتبسة التي تحكم صلتها به، فإن وعيها بحضوره الطاغي يظل مصدر توترها الذي ينقلب إلى حال يشبه العصاب، فلا تتوقف الأنا عن طرح الأسئلة التي تكشف عن رغبة الوصول إلى مستوى ذلك الآخر، إما على مستوى المشابهة التي تنقلب بالتشابه إلى تطابق، أو على مستوى المخالفة التي تنتمى إلى نوع من التشكل المعكوس الذي يستبعد الآخر بما يستعيده، وينفيه بما يثبته، وينفر منه بما يزيد الانجذاب إليه. وفى كلا المستويين، تستبدل الأنا الوهم بالواقع، والإيديولوجيا بالعلم، والتخييل بالتحقيق. وتتوسل للتمويه على دوافعها بآليات دفاعية، هى عمليات نفسية لا تخلو من معنى التعمية على عناصر الصراع المختلفة، خصوصا في الموقف النفسي الذي يمكن أن يمضي في الاتجاه المعاكس للرغبة المكبوتة أو يشكل رد فعل ضدها. والنتيجة هى آليات التبرير Rationalisation والعقلنة Intellectualisation التي لا يخلو منها التشكل المعكوس، إذا جاز أن نستخدم مصطلحات من التحليل النفسي الفرويدي. والتبرير هو العملية التي تحاول الأنا بواسطتها إضفاء تفسير متماسك من وجهة نظر منطقية، أو مقبول من وجهة نظر أخلاقية، أو جذاب من زاوية نفسية، لموقف أو فكرة أو شعور، تغيب دوافعه الحقيقية، ويستبدل بالدوافع الحقيقية تبرير عارض أو اضطرار دفاعي. أما العقلنة فهي العملية التي تحاول الأنا بواسطتها إعطاء صياغة منطقية في الظاهر لصراعاتها وانفعالاتها وهواجسها وتوتراتها بغية السيطرة عليها، لكن بما يقوم على تمويه الموقف الفعلي أو الدوافع الأصلية. وذلك هو ما يلجأ إليه المتخلف حين يريد التشبه بالمتقدم في نوع من الاتحاد الاسقاطي، أو يلجأ إليه التابع على نية التحرر من التبعية بنوع من التشكل المضاد الذي يحققه مبدأ الرغبة لا مبدأ الواقع. وفى هذا السياق، يبدو السؤال عن عدم وجود نظرية عربية خالصة في النقد أو عن فلسفة عربية معاصرة نوعا من الآلية الدفاعية التي تترتب على مقارنة مضمرة، إطارها المرجعي ذلك الآخر الذي يستوي أن يقع موقع الشبيه أو النقيض، ما ظل يحرك في الأنا ردود أفعال دفاعية تنقلب إلى نوع من العصاب الذي تستفزه رغبة الحضور المكافئ للآخر الشبيه أو النقيض. لكن رغبة الحضور المكافئ لا تحققها آليات العصاب الدفاعية، ولا ترتقي بها في مدى الوعي النقدي أسئلة التشكل المضاد التي لا تنجح إلا في استحضار العفريت الذي تسعى إلى الفرار منه. والدليل البسيط على ذلك أن السؤال عن وجود نظرية عربية خالصة للنقد الأدبي مثلا يعني، ضمنا، وبالضرورة، وجود نظرية غير عربية، أو حتى ضد عربية، تنتسب إلى قومية مضادة، أميركية أو إنكليزية أو فرنسية أو ألمانية..الخ، تمثل النقيض المتقدم الذي يفرض السؤال عن نظيره الغائب المتخلف الذي ينتسب إلى وعي الأنا المهوّس بتقدم الآخر، ذلك التقدم الذي لا يكف الوعي في أحوال عصابه عن رغبة الإنجاز على مثاله بوصفه الشبيه المشتهي، أو رغبة الإنجاز في مواجهته بوصفه الغريم المتقي. وتبدو الصياغة الإيديولوجية للسؤال الملحاح واضحة منذ اللحظة التي نضع فيها هذه الصياغة موضع المساءلة النقضية، من منظور الوعي النقدي الذي لا يتردد في أن يجعل من ذاته موضوعاً لمساءلته. والملاحظة الاستهلالية هي ما يسهل الالتفات إليه من أن صياغة السؤال ليست مطروحة إلا على ناقد العالم الثالث الذي يعاني وعيه من مشكلات التبعية بوجه عام، وعلى الناقد العربي المؤرق بمشكلات الهوية بوجه خاص، أي أن السؤال مطروح من موقع ضعف لا موقع قوة، ومن موقف اتّباع مضمر وليس موقف ابتداع مستقل. ولذلك يستبدل السؤال القول التخييلي بالقول البرهاني في إلحاحه، ويخلط بين العلم والإيديولوُيا في تكراره، ويخفي توجهاته الأصلية بمبررات سياسية أو عرقية مناقضة لمعنى العلم نفسه، فالعلم في تحليله النهائي صياغة تصورية تتسم بأقصى درجة ممكنة من التجريد والتعميم اللذين يجاوزان بتصورات العلم أو نظرياته أو قوانينه حدود القومية أو خصائص الجنس أو سياسات الأنظمة ومعتقداتها. وينطبق الوصف الإيديولوجي نفسه على الوضع الذي يستبدل بالصفة القومية الصفة الدينية أو الصفة السياسية في تحديد هوية العلم، فالنتيجة تظل هى هى من المنظور الذي يفصل بين العلم والإيديولوجيا، ويخص معنى العلم بالصياغة التصورية التي تجاوز في تجريدها تعين القومية أو الدين أو المذهب السياسي. والمرجع في ذلك ما تنبني به الصياغة التصورية للعلم من تجريد وتعميم، لا يوقعان العلم نفسه موقع المنعوت من أى نعت ديني أو سياسي أو قومي ينطوي على ما ينقض التجريد اللازم للقانون العلمي و يخالف التعميم الملازم للنظرية العلمية. أضف إلى ذلك ما يلزم عن الصياغة التصورية من معان نسبية لا تخلو منها دلالة العلم نفسه. وهى المعانى التي يتحول بها العلم إلى موضوع لمساءلة ذاته التي هى إياه على سبيل المراجعة النقدية، أو من جهة اختبار السلامة والاتساق الصوري للقضايا والمقولات، وذلك من المنظور الذي لا يبدأ بالتصديق، ولا يكف عن الاستعانة بالشك في المساءلة النقضية التي لا تعرف راحة اليقين أو التسليم المسبق للإيمان الاعتقادى. وليس تأكيد المغايرة بين الصياغة التصورية للعلم والصياغة الاعتقادية للأديان من قبيل إيقاع التقابل بين نقائض متعادية متنافرة بالضرورة، أو في كل الأحوال، وانما من قبيل تحرير الفارق بين مجالات لا ينبغي الخلط بينها لصالح تقدم العلوم وسماحة الأديان ورحابة القوميات.