افتراض أن السلام سوف يخيم يوماً على شرقنا السعيد، وعلى أساس أن "السلام" لم يدرج بعد في قائمة الغول والعنقاء والخل الوفي، وبتصور أن حكومة اسرائيل سوف تقبل ذات يوم بحقيقة أن السلام أكثر حيوية لها مما للعرب، وبأن الزمن هو عنصر يعمل في غير صالحها، وبأن منطق التاريخ ولغة البديهيات يؤكدان أن الشعب الفلسطيني موجود وسيبقى وسينال حقوقه المشروعة، وبأن اسرائيل إما أن تقبل بكونها إحدى دول الشرق الاوسط، أو تصر على الاستمرار كعضو غريب مزروع سيلفظه الجسد الاقليمي إن عاجلا أو آجلاً... لو تحقق ذلك التصور الذي يبدو مبالغاً فيه، فما ستكون طبيعة السلام المنتظر بين اسرائيل المعدّلة وجيرانها العرب في الاقليم؟ يذهب الطموح الاسرائيلي الى أن العلاقات العربية - الاسرائيلية ينبغي ان تتجاوز العلاقات الطبيعية التي تعارف عليها المجتمع الدولي. لذلك فاصطلاح "التطبيع" Normalisation يعني في القاموس الاسرائيلي إنفتاح الاقليم لاسرائيل بلا عوائق أو حواجز، مهما كانت طبيعتها سياسية أو اقتصادية أو ثقافية او دينية، وبغض النظر عن الحقيقة السياسية التي تؤكد ان العلاقات الطبيعية بين الدول لا تعني انتفاء الصراع الناشئ عن اختلاف المصالح طبقاً لظروف واهداف كل دولة في ادارتها علاقاتها الدولية. واذا نحينا جانباً حقيقة أن السلوك الاسرائيلي حتى الآن لا يبرر حجم طموحها، فإنه حتى في أكثر الاوضاع مثالية يستحيل تحقق هذا الطموح حتى لأعظم دولة في العالم. وقصارى ما يمكن ان يتحقق هو أن تصبح اسرائيل مجرد دولة اخرى من دول المنطقة بوزن يتناسب مع سلوكها واسلوب ادارتها علاقاتها الخارجية مع باقي دول الاقليم. لذلك أعتقد أن جزءاً من مشكلة الحكومة الحالية في اسرائيل والتيار السياسي الذي تمثله، هو أنهم يتوهمون أمرين: 1- أن اسرائيل لا يمكن ان تكون مجرد دولة اخرى في المنطقة، وانما هي دولة "بشرطة" او State-plus. 2- أن دول المنطقة وشعوبها لا حول لها ولا قوة سوى الاذعان لهذه الفرضية الخاطئة. وهذا التوهم يصاحبه إغفال للحقائق التالية: 1- أن السلام الطبيعي، وإن كان يعني انتهاء حالة العداء، فإنه لا يعني بالضرورة القفز الى حالة الصداقة والتعاون التي تحكمها اشتراطات اخرى. 2- أن وزن اسرائيل النسبي في المنطقة قد يؤهلها لعب دور ما يتناسب مع وزنها الذي يستحيل أن يؤهلها قيادة الإقليم او التأثير الشامل فيه. 3- ان عناصر القوة الشاملة لا تقتصر على الامكانات العسكرية وحدها، بل إن هذه الامكانات رغم اهميتها هي ذات طبيعة موقتة ونسبية، ومن المفروض انعدام تأثيرها في حالة احلال السلام. ويبقى بعد ذلك الثقل الديموغرافي والثقافي والامكانات الاقتصادية الموجودة والمحتملة. 4- ان أمن الاقليم هو وحدة لا تتجزأ، ولا يمكن أن يتحقق الامن الكامل لوحدة من وحداته على حساب وحدات اخرى، كما أن عدم الاستقرار في وحدة ما يؤثر في باقي الوحدات بشكل يشبه لعبة "الدومينو" خالقا ما يسمى .Domino effect 5- أن هذه المنطقة شأنها شأن اية بقعة جغرافية في العالم فيها ما يسمى الدول المفاتيح او Key Countries وهذه التسمية تعكس فعلاً حقيقة تاريخية وجيواستراتيجية مفادها باختصار أن الولوج الى الاقليم لا يتم الا من بوابات هذه الدول. 6- واخيراً فان اغفال ما لهذه المنطقة من ميراث تاريخي حضاري وانساني وثقافي والتعامل معها بمفردات حقب الفتوحات والكشوف الجغرافية والاستعمار هو أكبر خطايا الفكر الاسرائيلي الحالي. وأخذا في الاعتبار بكل ما تقدم، فليس هناك أدنى شك في ان علاقات اسرائيل بدول الاقليم سوف تكتسب بمرور الوقت خصوصية معينة، اذا تخلت قيادتها عن الاوهام السالفة الذكر وسلمت بالحقائق التي تتغافلها أو تجهلها أو تتعالى عليها. ذلك أن الجوار الجغرافي له في نهاية الامر طبيعته الخاصة التي تصبغ علاقات الاقليم البينية بصبغة مميزة تختلف عن العلاقات مع دول من خارج الاقليم. وبهذا الفهم وحده يمكن أن يتحقق حلم الاجيال المتعاقبة بأن يحل السلام اخيراً على ارض الشرق التي سبق لها ان صدّرت هذا المفهوم الى البشرية جمعاء.