الحوار القائم حول موازنة الدولة لسنة 1998 يخفي وراءه خلافاً مريراً آخر أبعد من الموازنة وأعمق من ضرائب تفرض وقروض تعقد، وما لذلك من نتائج على الصعيد الاقتصادي العام للدولة والشعب اللبناني. أما الجدل القانوني القائم حول الجدول رقم 9 من الموازنة بالتحديد فله مبرراته ان من حيث شرعيته او من حيث مطابقته للمواد 81، 82، 83، 88 من الدستور. ولا ريب في ان الجدول رقم 9 يجب درس بعض محتوياته ملياً من جانب رجال القانون وفي آخر الامر من جانب المجلس الدستوري، ليقول كلمته فيه وذلك بعد مراجعة من قبل مجلس النواب وبالتحديد من قبل النواب المعارضين للحكومة في هذا المجلس. وفي رأيي ان الموضوع الابرز في هذا الجدل القائم وما سيؤول اليه من المراجعة امام المجلس الدستوري سيدور حول المادة 83 التي تفرض ان توضع الموازنة سنة فسنة بينما يأتي على خلاف ذلك مبدأ القرض وتسديده، الذي أقر في موازنة 1998 ويمتد الى ثلاثين سنة. فالموازنة عندنا كانت في السنوات الماضية، هي الطريق الاسهل لتمرير بعض القوانين الشائكة، فتمر هذه القوانين مرور الكرام في قانون الموازنة الضخم الذي يجري اعداده في مئات الصفحات ولا يدرسه الا عدد قليل من النواب ورجال الاختصاص. ويمكن ان تكون سنة 1998 هي الفاصل في قضية الموازنة والتمريرات التي دأبت السلطة التنفيذية على تضمينها للموازنات قبل ان يأتي الرئيس رفيق الحريري الى الحكم بسنوات عديدة. لكن يجب الا ننسى أمرين: أولهما ان الرئيس الحريري جاء الى الحكم بعد حرب دامت سبعة عشر عاماً وبالتالي كان عليه تضميد جروحها الاقتصادية والانسانية معاً، وثانيها ان الرجل بتربيته وسليقته صاحب نظرية في طريقة مباشرته الاعمار وتسيير الاعمال في البلاد. والجراح اللبنانية التي على الرجل تضميدها كبيرة وعميقة، ونمط تفكيره فيه الكثير من الاقدام والارتجال لان مثله الاعلى او الخبرة التي اكتسبها حصلت في بلاد تميزت بثرواتها الطبيعية وبالتالي بمشاريعها العمرانية الكبيرة وما يترتب على ذلك من هدر مرتبط بهذه المشاريع الكبرى التي تتميز بالفخامة والرؤية البعيدة قبل اي شيء آخر. وفي الواقع انه كان لنا من اجل تجاوز الازمة في لبنان خياران: فاما خبرة رجال الاقتصاد والمال الجامعية واما خبرة رجال الاعمال والمقاولين الكبار. اي ان الاختيار كان تجسد في لبنان بشخصين وطريقين فاما طريق الدكتور سليم الحص رجل العلم والتقنية المحضة او طريق الاستاذ رفيق الحريري المقاول ورجل الاعمال الناجح لوضع روح جديدة ودفع البلد على طريق النمو والتطور السريع. وان الذين يعارضون اليوم الرئيس رفيق الحريري انما يعارضون سواء أدركوا ذلك او لم يدركوه، الخيار الثاني لكنهم، ربما كانوا يعارضون الدكتور سليم الحص نفسها بالشراسة التي يعارضون بها اليوم الرئيس رفيق الحريري لان المعارضة هي في تكوينهم ومن مقومات شخصياتهم قبل ان تكون اي شيء آخر. وهنا لا بد من طرح السؤال الاساسي وهو الذي يجب، في الحقيقة، ان يكون موضوع الجدل والخلاف القائم على الصعيد الوطني والقومي في آن معاً: هل ان سياسة القروض التي يعتمدها الرئيس رفيق الحريري على نطاق واسع هي السياسة المثلى لاخراج البلد من تخلفه بعد ما عاناه خلال سبع عشرة سنة من الحروب؟ وهل انه كان يعي تماماً المغامرة الكبرى الى ادخل فيها البلد او انه جرّ اليها جراً؟ وهل ان لبنان بالاربعة ملايين من سكانه والعشرة آلاف متر مربع من مساحته يمكنه حمل وزر خمسة عشر بليون دولار من الديون؟. لا شك في ان معظم دول العالم قد استدانت لتقوّم اقتصادها وتمشي قدماً على طريق النمو والازدهار. وهناك مثل هو بولونيا الدولة الوسط التي يبلغ عدد سكانها 38 مليون نسمة بينما مساحتها 300 الف متر مربع والتي بلغت ديونها 30 بليون دولار وهي اليوم من الدول المتقدمة في اوروبا بالنسبة، ليس فقط الى العالم الشيوعي السابق، بل بالنسبة الى بعض الدول الغربية كاليونان والبرتغال الاوروبيتين. اضف الى ذلك ديون معظم الدول المتقدمة او التي هي في طور النمو وان في ذلك ما يدحض قول القائلين بانه ليس للبنان ان يعقد اتفاقات قروض بتاتاً. على انه يبقى السؤال الآتي ماثلاً للاذهان بالنسبة الى مساحة لبنان وعدد سكانه: هل يجوز ان نقع تحت عبء هذه الديون الضخمة وهل هناك تناسب بين ديننا العام وحجم لبنان الاقتصادي والمالي على حد سواء؟ ويبقى هذا السؤال من دون جواب خاصة بعدما اهتز اقتصاد دول شرق اسيا التي كانت المثل الاعلى لحكامنا في الاستدانة والنمو واقتحام دنيا الاقتصاد المتطور. وهنا لا بد لنا من الاخذ ببعض النظريات القائلة بان شخصية الحاكم تطبع الحكم والواقع بقدر ما تتطبع بهما. وواقع الامر ان شخصية الرئيس الحريري تندرج في هذه الانماط من الشخصيات لان فيها من الاغراء بقدر ما فيها من الريبة. فالرجل ليس بعادي بالمعنى المجازي وغير المنتقص لشخصيته مهما وجه اليه من تهم من قبل اخصامه وما سدد اليه من شتائم غالبيتها تظلمه ولا تفيه حقه ابداً. ان من قال ان الرئيس رفيق الحريري يفتش عن مال ضائع، في لبنان لا يفهم الرجل. ولا اهدافه، ولا تكوين شخصيته العميقة وقد سبرتها الايام خلال صراع طويل مع القدر وتقلبات الزمن التي مر بها في صباه وشبابه. وان له في مغامراته اللبنانية هدفاً الا وهو اعمار لبنان وليس اي شيء آخر. اما بالنسبة الى شخصه فهدفه هو الدخول في نادي العظماء من باب التاريخ الواسع ليصبح من انداد الكبار من الملوك والرؤساء في العالم العربي وهو الذي كان يقف على ابواب هؤلاء الرجال منذ زمن قريب يطلب موعداً ويحسب انه لن يعطى له ابداً. لا شك ان رفيق الحريري المتمول الذي دخل المغامرة اللبنانية من هذا الباب هو في واقعه اكبر من المال. رفيق الحريري يقود مغامرة في لبنان كان لا بد لبلدنا من خوضها. يبقى السؤال: ما ثمن هذه المغامرة وهل كان الثمن باهظاً الى حد انه يجب علينا محاسبته عليها. عندما يفكر المرء برفيق الحريري يجب مقارنته بمن قادوا مثله مغامرات كبيرة في العالم وتعود بي الذاكرة الى انطوان بيني، رئيس وزراء فرنسا ووزيرها للمال في العهد الاول لديغول. سمي انطوان بيني رئىسا للوزراء في فرنسا سنة 1952 فعقد قرضاً كبيراً مدعوماً بالذهب وارسى اقتصاد فرنسا على اسس سليمة جعلته من رجال الاقتصاد المرموقين في بلده بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك فلما جاء ديغول الى الحكم سنة 1958 اسند وزارة المال الى انطوان بيني الذي نهض بالفرنك الفرنسي ووطد اسس الفرنك الجديد، فاقترن باسمه، وبات المرجع الكبير في الاقتصاد الفرنسي الحديث وفي نمو فرنسا في عهد الجنرال ديغول وما بعده. ان انطوان بيني يذكرني برفيق الحريري الذي ثبت سعر الليرة اللبنانية ورفع نسبة الدخل القومي والفردي في لبنان اربعة اضعاف. لكن هناك شخصية اخرى تذكرني ايضاً بالرئيس رفيق الحريري وهي شخصية فردنان دي لسبس الذي استطاع بفضل علاقة ابيه بمحمد علي الكبير في مصر ان يوطد علاقته مع ابنه سعيد ففاز بالتزام فتح قناةالسويس واتمه سنة 1869 مما اعطاه مجداً لا يضاهيه اي مجد آخر. ثم انه في سنة 1879 فاز ايضاً بالتزام فتح قناة بناما في اميركا اللاتينية لكنه لم يستطع إتمام مشروعه بسبب ضعف الآليات في تلك الفترة من التاريخ بالقدر المطلوب لفتح قناة بهذه الضخامة، فانهار المشروع وحكم على لسبس بثلاث سنوات حبساً ولكنها لم تنفذ ضده وانتهى مغموراً بينما هو اليوم من رجال الكبار في تاريخ الشرق والعالم. لقد ثبّت الرئيس الحريري سعر الليرة اللبنانية، كما فعل انطوان بينيه ورفع مستوى المعيشة في لبنان اربعة اضعاف على ما كانت عليه عند استلامه الحكم، سنة 1992. وانه كفردنان دي لسبس قام بعمل عمراني جبار اذ رمم بيروت ثم اخذ على عاتقه رفع مستوى المناطق اللبنانية بمشروعه لعقد قرض بتسعماية مليون دولار لهذا الغرض. لكن هذه الديون المتراكمة والتي ليس لها سقف تقف عنده، هل يمكن ان تبقي لبنان بلداً يستهوي المدينين الى أمد غير محدود، بينما دولته لا تستطيع القيام بجبي ضرائبها من اي جهة كانت. ان رفع سعر صفيحة البنزين من عشرة الى اربعة عشر الف ليرة، بدا وكأنه جريمة لا تغتفر بينما جميع بلاد العالم تلجأ الى هذه الضريبة غير المباشرة للنهوض باقتصادها من فرنسا الى انكلترا الى جميع دول العالم المتقدم. ان بدل الكهرباء ما زال من الاموال المحرم جبايتها بل السائبة وتتحمل الدولة مئات الملايين من الدولارات كل سنة لتجهيز محطات كهربائية وسد ديون شركة كهرباء لبنان التي ليس لها قعر في المستقبل المنظور. جميع الضرائب التي يفرضها اقتصاد سليم، ترفض من الرأي العام ومجلس النواب وكأن جبي الضرائب هو جريمة لا تغتفر بينما الهدر قائم على قدم وساق والاستدانة من الخارج تبدو الطريق الوحيد لسد عجز الخزينة الذي يبلغ كل سنة ارقاماً خيالية تشبه الى حد بعيد ارقام موازنات الدول الافريقية المتخلفة. فالى متى يمكن للدولة اللبنانية ان تختبىء وراء اصبعها وتحسب ان الناس لا ترى او ان المصارف العالمية تؤخذ بمعسول الكلام وعلاقات رفيق الحريري الشخصية مع ملوك النفط ورؤساء المصارف وشهرته العالمية؟ لقد بدأ لبنان، بعد حربه لسبع عشرة سنة، كمشروع فتح قنا* السويس ويجب الا يكون مصيره كمشروع فتح قناة بناما الذي غرق في ادغاله. ولقد بدأ الرئيس الحريري حياته السياسية في لبنان كرئيس وزراء فرنسا ووزير ماليتها انطوان بيني فنهض بالليرة وارسى الاقتصاد اللبناني بشكل مقبول بعد انهياره تماماً ايام الحرب اللبنانية الطويلة. واذاً فلقد بدأ الرئيس رفيق الحريري حياته السياسية كانطوان بيني ولا يجوز ومن غير المقبول ولا المعقول ان ينهيها كفردنان دي لسبس.