تحولت باحة المحكمة الجزائية في باريس حيث أدين امس الفيلسوف والكاتب الفرنسي روجيه غارودي بتهمة التشكيك بالمحرقة، بسبب كتاب نشره سنة 1996، الى ميدان تظاهر وصخب وتدافع لحوالى 50 عنصراً من انصار شحركة "بيتار" الموالية للصهيونية. وضجت الباحة بهتافات هؤلاء الشبان "اسرائيل ستبقى، اسرائيل ستحيا" و"الموت للفلسطينيين" على مرأى من رجال الشرطة الفرنسية الذين انتشروا بكثافة. وخلافاً للجلسات السابقة غاب انصار واعضاء المنظمات الموالية للفلسطينيين، فخلت لشبان الحركة الصهيونية الذين كانوا يفورون غضباً لدى وصول أي شخص يشكون بأنه من مؤيدي غارودي فيمطرونه بهتافات "نازي" و"جلاد" و"الموت لك". وبلغ غضب هؤلاء الشبان ذروته لدى وصول صاحب دار نشر "لافيي توب" بيار غيوم الذي يعد من رموز المشككين بالمحرقة اليهودية في فرنسا، وحاولوا الاعتداء عليه بالضرب، فتدخل أحد الصحافيين العرب محاولاً ابعادهم عنه، فضرب بدلاً عنه وسقط أرضاً قبل ان يتمكن رجال الامن من حمايته. كما هاجم انصار الحركة الصهيونية سيدة فرنسية حاولت ان تقول لهم ان سلوكهم غير لائق، فتجمع بعضهم حولها وبدأوا يدفعونها في كل الاتجاهات، وخاطبها احدهم قائلاً: "أيتها الحقيرة، اشتري لنفسك كلباً يسليك بدلاً من التسلي بنا". وطغى صراخ هؤلاء الشبان على وقائع جلسة الحكم التي انعقدت في غياب غارودي، وايضاً في غياب محاميه جاك فيرجيس، فيما اقتصر الحضور على محامين وممثلين عن المنظمات المدعية على غارودي بتهمة التشكيك بالمحرقة اليهودية في كتابه الذي يحمل عنوان "الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية". ووزعت هيئة المحكمة قرارها بإدانة غارودي، وفقاً للتهم الخمس الموجهة اليه، وتدور جميعها حول التشكيك بحقيقة حملة الابادة التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وبحقيقة وجود غرف الغاز، والخلط بين الديانة اليهودية والنظرية الصهيونية. وفرضت هيئة المحكمة على غارودي 84 عاماً الذي اعتنق الاسلام، دفع غرامات مالية متعددة تصل قيمتها الى حوالى 120 ألف فرنك فرنسي لكل من المنظمات المدعية عليه، وهو حكم معتدل مقارنة مع احكام القانون الفرنسي الذي ينص على عقوبة السجن لمدة سنة وغرامة مالية تقدر بحوالى 300 ألف فرنك. وتكمن قساوة هذا الحكم في جانبه المعنوي اذ انه اعاد تثبيت استحالة اعادة النظر ب "قانون غاسو" الفرنسي الذي يحظر أي اعادة نظر في أي من جوانب الاضطهاد الذي لحق باليهود في ظل النازية، وهو ما كان المحامي فيرجيس ركز عليه في معرض دفاعه عن غارودي امام المحكمة في كانون الثاني يناير الماضي. ورفضت هيئة المحكمة أقوال غارودي بأنه يحترم اليهودية ويكافح الاصولية الصهيونية التي تستخدم الديانة اليهودية كذريعة لتجاوز القوانين الدولية. وتوقفت المحكمة عند تشكيك غارودي في حقيقة وجود غرف الغاز وعند مساواته بين محاكمة نورمبرغ التي اعقبت الحرب العالمية الثانية ومحاكمات المشعوذين في القرون الوسطى. ورأت ان ما ورد في كتابه لم يقتصر على اثارة جدل علمي تاريخي بل انه يصب في صلب ادبيات المشككين في المحرقة وبحقيقة "الحل النهائي" الذي اعتمدته النازية للتخلص من اليهود. واعتبرت هيئة المحكمة ان غارودي تناول بالذم شرف الجالية اليهودية بقوله انها تستخدم "المحرقة" و"الابادة" للتجارة، وأشارت الى انه يخلط بين ما يسمى "اللوبي الصهيوني" والجالية اليهودية الفرنسية، لكنها برأته من تهمة التحريض على الحقد العنصري. وتلقى ممثلو المنظمات المدعية على غارودي الحكم بارتياح واضح، ووصفوه بأنه موزون، واستقبله الشبان من انصار حركة "بيتار" بارتياح ايضاً، لكنهم لم يغفلوا ترديد شعارات "غارودي الى السجن". وكانت المنظمات المدعية على غارودي طالبت بحظر كتابه ومنع توزيعه، لكن الكتاب لم يحظر وترجم الى لغات عدة. ومن المرتقب ان تشهد هذه القضية فصلاً جديداً اذا ما قرر غارودي استئناف الحكم الصادر في حقه، حسب ما قاله المحامي فيرجيس الذي عبّر بدوره عن ارتياحه لقرار المحكمة الذي جاء مخففاً مقارنة مع العقوبة المنصوص عليها في القانون الفرنسي.