روجيه غارودي 84 سنة من مفكري فرنسا البارزين في القرن العشرين، تميز بهجرته النظام الفكري الذي يعتنقه ويعمل فيه الى نظام آخر مغاير، فترك المسيحية الى الماركسية ثم الى الاسلام، حيث يقبل بعض المسلمين أفكاره ويرفضها بعضهم الآخر. غارودي يخضع في السادس عشر من الشهر الجاري لمحاكمة بسبب ما ورد في كتابه الأخير "الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية" من "تشكيك في ارتكاب جرائم ضد البشرية خلال الحرب العالمية الثانية"، والمقصود محرقة اليهود التي قام بها الجيش النازي في أوروبا والتي تعتبر أساساً عقائدياً لاسرائيل وإعلامها وعلاقاتها بالغرب حكومات وشعوباً. والحال ان غارودي في كتابه ذي المنحى الايديولوجي الطاغي على التوثيق التاريخي، لم ينكر محنة اليهود في أماكن سيطرة الجيش النازي في أوروبا بقدر ماركّز على المبالغة في هذا الأمر. ونعتقد ان القضاء الفرنسي وهو سلطة مستقلة بالطبع سيصل الى الحكم العادل، ويفترض ان لا يكون للتعاطف العربي مع غارودي وتحامل اسرائيل ومؤيديها عليه شأن في القرار. والتعامل العربي مع هذه القضية مشوب بالتشكيك المسبق في القضاء الفرنسي أو النظر اليه على انه قابل للاستدراج من جماعات عنصرية معادية للعرب. وشددت هيئات مثل اتحاد الكتاب الفلسطينيين في القدس على "التضامن مع مواقف غارودي الشجاعة لتكريس حرية الفكر والابداع"، و"الوقوف الى جانبه في وجه محاولات الكبت وتكميم الأفواه". لنلاحظ الكلمات التي اختيرت بما يناسب كاتباً عربياً يعارض واحداً من الأنظمة العربية التقدمية جداً أو الشخصيات العربية المهمة جداً. أما نقابة الصحافيين المصرية فدعت الى "إرسال برقيات احتجاج الى الحكومة الفرنسية" كأنها المعنية لا القضاء، أو كأن القضاء مجرد تابع لا استقلال له ولا ضمير! ولم يكن اتحاد المحامين العرب أكثر تدقيقاً للأسف، فورقته، التي يتصدرها شعار "الحق والعروبة"، تقول انه سيدعم غارودي بمحامين عرب أمام القضاء الفرنسي، لكنه يأسف لأن الدول العربية لم تتبرع لصندوق مالي خاص أنشأه الاتحاد لهذه القضية. ويتمنى كثيرون قرأوا الورقة ان ينشئ الاتحاد مثل هذا الصندوق لتمويل الدفاع عن أبرياء معتقلين في بلدان عربية يصدر الاتحاد أوراقاً شبه يومية في الدفاع عن سياساتها ضد "الامبريالية". وفي انتظار قرار القضاء الفرنسي، يكون التعاطف الفعلي مع غارودي بالتعاطف مع الحريات العامة في أوروبا وفي غيرها ايضاً، والتشديد على مكافحة العنصرية كتراث انساني نموذجي تفيد منه الاقليات اليهودية والعربية وغيرها ويتضرر منه العنصريون والفاشيون وأشباههم.