تباشر الحكومة المغربية الجديدة مهماتها داخل مناخ عام من الترقب والانتظار، داخلياً وخارجياً، إذ استغرقت عملية انجاح تجربة التناوب السياسي ما يقرب من ست سنوات. وجرى تعديل الدستور مرتين 1992 و1996. والظاهر أن القرار السياسي بادماج أحزاب المعارضة في تحمل المسؤولية التنفيذية تبلور بفعل تداخل عوامل يعود بعضها إلى تداعيات انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية وأحداث الجزائر، ويرجع بعضها الآخر إلى الحركية الخاصة التي أفرزها المجتمع المغربي، حين تمكنت الدولة من انجاح برنامج التقويم الهيكلي على الصعيد المالي، لكنه فاقم من الحالة الاجتماعية للفئات الفقيرة والمتوسطة وزاد من نسبة الفقر وغلاء المعيشة على الحكومة 1990 لحظة قوية في المواجهة بين اختيارين: الحكومي الذي تتسانده أحزاب الغالبية ذات النزوع الليبرالي، أو النيوليبرالي المتطرف الذي يدعو إلى مزيد من الخوصصة والتخلي عن تدخل الدولة في القطاعات الانتاجية ورفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الأساسية وتوقف الدولة عن تشغيل المتخرجين وفسح المجال للقطاع الخاص وتشجيع الاستثمارات الخارجية... الخ. واعتبرت أحزاب المعارضة أن هناك خللاً في توزيع الثروة الوطنية - على محدوديتها - وتبذيراً لا تتحمله موازنة بلد مثل المغرب، وفساداً في الاقتصاد والإدارة، ولا عدالة في الفرص، ورأت بأن المجتمع ما زال في حاجة إلى دولة ديموقراطية حقيقية تحترم حقوق الإنسان عموماً وترفع من شأن المواطن سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وبأنه إذا كان من انفتاح على العالم والمبادرة الحرة، فيجب أن يكون ذلك لفائدة أوسع الفئات الفقيرة والمتوسطة خصوصاً. ومهما كانت الأسباب التي وراء توقيف مفاوضات التناوب السياسي يوم 11 كانون الثاني يناير 1993، أو الظروف التي مرت منها الانتخابات بأصنافها سنة 1997، وما تم تسجيله من احتجاج وطعن ونقد... الخ، فإن تكليف عبدالرحمن اليوسفي وزيراً أولاً أكد رغبة العاهل المغربي على تحقيق "التناوب التوافقي" من جهة، كما خلق تشويشاً فعلياً على كثير من المواقف الاعتراضية من جهة ثانية، إذ اضطرت أحزاب سياسية في ظرف شهرين إلى تغيير مواقفها جذرياً من "الرفض المطلق" لنتائج الانتخابات والمطالبة بالانسحاب من المؤسسات وعدم تزكية أي حكومة منبثقة عنها، إلى القبول بالمشاركة في حكومة اليوسفي. من المؤتمر الاستثنائي لحزب الاستقلال في تشرين الثاني نوفمبر 1997، إلى المؤتمر العادي في شباط فبراير 1998، عاش الخطاب السياسي المغربي اختباراً حقيقياً، حين تحولت اللغة من حدة مثيرة في النقد إلى ليونة وإقرار بالمعطيات المستجدة. وهذا مؤشر على أن للقيادة في المغرب دورها الحاسم في التوجيه واتخاذ القرار حتى ولو تبرمت فئات من قواعدها. الآن، وبعد أن اكتملت دائرة "التناوب التوافقي" بقبول المعارضة مبدأ المشاركة في الحكومة مع أحزاب لم تكن بالأمس تعترف بشرعية وجودها، وفي ذلك ما يفيد تطبيعاً فعلياً مع ما كان ينعت ب "أحزاب الإدارة"، وتناغماً مع المؤسسة الملكية من خلال "التعايش" مع هذه الأحزاب. بعد ان انتقلت أحزاب مارست السياسة الاعتراضية ما يقرب من أربعين سنة إلى مواقع الحكم، ما هي التغييرات التي ستحصل على الخطاب السياسي للمعارضة القديمة، وكيف ستتحمل هذا التحول البنيوي في هويتها السياسية؟ أسئلة تفرض ذاتها بقوة على الحقل السياسي، وهي مدعاة للمراقب على مواكبة ما يحصل في المجتمع المغربي من تبدلات. لا شك في أن المعارضة المغربية تحملت مسؤوليات سابقة، لأن التناوب لا يكون على الحكومة فقط، وإنما يكون على صعيد الجماعات المحلية والحضرية وعلى مستوى اطر الدولة. وشارك الاتحاد الاشتراكي منذ أوساط السبعينات في تسيير أحوال مدن كبرى في المغرب وعلى رأسها الدار البيضاء والرباط، كما ان اطراً تنتمي للحزب تتحمل مسؤوليات في مؤسسات الدولة، لكن مواقف هذا الحزب، كما يعبر عنها في البرلمان وفي إعلامه الخاص، تميزت دائماً بالاعتراض والاحتجاج على السياسة الرسمية. أما الآن وهو في موقع القرار التنفيذي مع حلفائه وبعض أحزاب الوسط، ما هي اللغة التي عليه نحتها لمواجهة الحقائق الكبرى التي تنتصب أمامه؟ ما هو الخطاب المناسب الذي يتعين صياغته للتواصل مع أطراف وجهات مختلفة المصالح ومتناقضة الأهداف؟ يتوقع ان تتخذ الحكومة قرارات حاسمة على كل المستويات، الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية، وان تولي أهمية للممارسة الفعلية للديموقراطية باطلاق الحريات والاتصالات إلى آراء "المجتمع المدني"، إذ طالما تحدث الاتحاد الاشتراكي باسم هذا المجتمع، وطالب باشراك أكبر عدد ممكن من الكفاءات المناسبة في المواقع المناسبة من دون تحزب مبالغ فيه أو "اخوانيات" ومحسوبية، فالأمر يتعلق باختبار حقيقي لصدقية خطاب "المعارضة القديمة"، والآمال التي أطلقها تعيين السيد اليوسفي قد تتبخر بسرعة في حال ما لم تنتهج استراتيجية عصرية للاعلام سيما وأن تجربة الصحف الحزبية مع الرأي المعارض ليست كلها ايجابية، فإذا كانت المعارضة تعني اتخاذ مواقف مخالفة للاختيار الرسمي وصوغ خطابات ضدية، فإن التقاليد الاعتراضية لدى النخب التي تتحمل المسؤولية ربما تسقطها في التباسات لا حدّ لها، وتزج بها في شباك الفكر الوحيد، في حين ان الديموقراطية العصرية تقوم أساساً على الحقيقة الاجماعية والإقرار بصدقية أفضل برهان والاعتراف بثراء التعدد. رهانات هذه الحكومة لا حصر لها، من أبرزها الوحدة والديموقراطية والتحديث والتنمية، لكن انجاح هذه التجربة السياسية واجتراح أساليب عصرية في القرار والتواصل وتعميق القيم في المجتمع سواء في الموالاة أو الاعتراض، انتظارات ستعطي لتجربة هذه الحكومة كل دلادلاتها التاريخية. صحيح ان الخطاب المعارض سينتقل إلى الأحزاب اليمينية التي أدارت الشؤون الحكومية خلال ثلاثين سنة، لكن ستجد أحزاب المعارضة السابقة الاتحاد الاشتراكي، حزب الاستقلال، حزب التقدم والاشتراكية، والحزب الاشتراكي الديموقراطي نفسها، من موقع المسؤولية، مضطرة إلى التكيف مع ضغوط المؤسسات الحكومية ونسج لغة جديدة تقطع مع التقاليد الاحتجاجية للمعارضة، ربما تؤدي إلى انتقاد أساليب التسيير السابقة وتطعن في نتائجها، وقد تعلن تبرمها من النهج "اليميني" الذي قاد البلاد إلى وضعية غير مريحة، لكن للسلطة منطقها في كل الأحوال، فهي تستدعي التبرير وتفترض تسويغ قرارات لا تنسجم مع المبادئ المعلنة، الأمر الذي سيفرز، لا محالة، أكثر من طرف معارض للحكومة الحالية، منها من لم تستجب الأحزاب المشاركة لتطلعاتها ومطالبها، ومنها من تنتمي للتيارات الإسلامية. تشكلت هذه الحكومة اعتماداً على معطيات سياسية لا تتوافر لها حصانة قوية، لكن تكوينها في حد ذاته، فضلاً عن أبعاده التاريخية، يؤشر على بدايات انتاج حقل سياسي مغربي جديد، وتغيير مواقع ولغات تقليدية استنفد الخطاب السياسي المعارض كثيراً من مفرداتها.