على رغم زوال موجة الحر بعد صيف ساخن جداً وبدء الاستمتاع بجو خريفي معتدل، فإن زائر المغرب هذه الأيام يلمس حرارة وسخونة في الأجواء السياسية وفي الصالونات السياسية وحلقات الجدل والنميمة اليومية تدور كلها حول "تجربة التناوب" الوليدة وقدرتها على الاستمرار والمصاعب التي تواجهها والآمال المعلقة عليها. فقبل 8 أشهر ونيف وبالتحديد في 4 شباط فبراير الماضي حقق الملك الحسن الثاني حلماً جديداً من أحلامه وأوفى بوعده في الوقوف بقوة وراء انتخابات عامة نزيهة ومتميزة بالحياد والشفافية، مكملاً بذلك ما بدأه ورعاه بنفسه، وهو تكريس دولة المؤسسات ومداميك الملكية الدستورية التي تتمتع بإجماع شعبي وسياسي فريد من نوعه ثم خوض غمار تجربة مثيرة لم يسبق لأحد في العالم العربي، بل في العالم الثالث، أن تجرأ على ركوب مخاطرها، وعنيت بها "تجربة التناوب" في الحكم بين الموالاة والمعارضة. والسؤال المطروح في المغرب الآن، وامتد في بعض الأحيان الى المحيط العربي والأجنبي هو: هل ستنجح هذه التجربة؟ وما هي المصاعب والعقبات؟ ومن يقف معها ومن يقف ضدها؟ وهل من المبكر بدء مرحلة المحاسبة والسؤال والتقييم، أم أن الأمر يحتاج الى وقت وصبر وجهد وتعاون ومثابرة وتفاؤل بالخير ليجده بعد ذلك الشعب المغربي العريق؟ لا شك أن من الظلم اصدار أحكام متسرعة على التجربة الفتية لأنها بالكاد بدأت تتنفس وتتحرك لتنفيذ برنامجها الطموح ووعودها الكثيرة فالملفات متعددة والموقف حرج بسبب تعددها وتشابكها أولاً ثم بسبب نقص الإمكانات والموارد الكافية لمثل هذا البرنامج وأخيراً وليس آخراً بسبب عدم نضوج التجربة وصعوبة هضمها أو تصديقها والعراقيل التي تواجهها. وعندما وعد العاهل المغربي تبني هذه النقلة التاريخية الشجاعة لم يصدق الكثيرون أنها ستنفذ بمثل هذه الدقة والسرعة والحسم، على رغم ايمانهم بمصداقية الملك وتمسكه بوعوده وحرصه على اختيار كل كلمة وخطوة، وهو الآن الراعي الأول والمساند الأكبر لتجربة التناوب وتكريس مبادىء العملية الديموقراطية، إن لم نقل اللعبة الديموقراطية، وهو الحريص على انجاحها وإزالة العقبات من طريقها لأن نجاحها يعني الانتقال الى مرحلة الاستقرار والسبيل للعمل السياسي والوطني واستقبال القرن الواحد والعشرين بجسم سليم ووجه حسن يتعامل مع المتغيرات العالمية، وهذا ما شدد عليه في خطابه لمناسبة افتتاح دورة البرلمان الجديدة حيث دعا للإخلاص للوطن والشعب ونبذ الانتهازية والمقاصد الشخصية وانتقد الصراع بين الأحزاب والحدة في النقاش معرباً عن تفاؤله بما تحقق اقتصادياً وسياسياً. واختيار السيد عبدالرحمن اليوسفي زعيم المعارضة السابق ليؤدي هذه المهمة كانت بمثابة "ضربة معلم" من الملك وبالتالي رسالة واضحة على الرغبة الأكيدة في انجاح التجربة وإيصالها الى آخر المدى مع الإدراك أن فشلها سيدخل البلاد في متاهات ليس بحاجة لها بينما هو يستعد لمواجهة استحقاقات كبرى وأولها الاستحاق الأهم وهو الاستفتاء على مغربية الصحراء تحت اشراف الأممالمتحدة. فاليوسفي شخصية هادئة متزنة حتى في معارضتها أيام عز معارضة الاتحاد الاشتراكي ونظيفة السمعة والكف، والأهم من كل ذلك تحليها بالصبر وكظم الغيظ الى آخر المدى، وهي ميزة لرجل الدولة واليوسفي يعرف حدوده ويفهم قواعد اللعبة، ولهذا نال ثقة الملك الحسن، فأعطاه كلمة السر ودعم سعيه للإصلاح ومحاربة أي وجه من وجوه الفساد التي يشدد عليها قائلاً لزواره: لقد تجاوزت السبعين، وليس عندي أولاد ولا مطامع... كما جاء تحالفه مع حزب الاستقلال العريق وتوسيع الحكومة الإئتلافية لتشمل أحزاب الأحرار والوسط حتى الموالاة ليشكل لوحة "موزاييك" براقة ولكنها لم تصل بعد الى مرحلة "التجانس" ووحدة الهدف والتوجهات وهذا أمر طبيعي لمثل هذه التجربة يؤكد ما ذهبت اليه في البداية وهو أن من الظلم، ومن الصعب، اصدار أحكام أولية على هذه الحكومة لأنها لم تدخل بعد الامتحانات الحقيقية التي لا تزال تستعد لها وتراوح بين الإقدام والتحفظ، وعندما تدخلها إما أن تكرم... أو تهان. ولكن هل يمكن القول أن شهر العسل قد انتهى، وأن الأيام أو الأشهر القليلة المقبلة ستعطي مؤشرات على خط سير التجربة بعد أن أفل زمن التفكير وجاء وقت التدبير ومواجهة الحقائق وجهاً لوجه والتعامل معها على أرض الواقع واجتياز حقل ألغام الاستحقاقات الكبرى؟ من خلال سلسلة لقاءات وجولات وقرارات وحوارات يمكن تحديد أبعاد المرحلة بعد الأشهر الأولى "التسخينية" كما يمكن معرفة قائمة الصعوبات أو الملفات الصعبة وتصنيف المواقف وتطلعات الفرقاء وآمالهم المعلنة والخفية ويمكن تقسيمها الى فئة تخاف على التجربة من السقوط في مستنقع الضياع والصراع، وفئة تخاف منها ومن انعكاسات نجاحها، وفئة ثالثة تمثل الأكثرية وتضع يدها على قلبها قلقاً عليها وانتظاراً لما يمكن أن تحققه للمواطن العادي وما يمكن أن تحله من مشكلات وصعاب يواجهها في حياته اليومية وبحثه عن لقمة العيش وفرصة العمل الشريف وما يتفرع منها من سكن وتعليم وطبابة ودواء وصولاً الى الهدف الأكبر وهو الثقة بالحاضر والأمل بالمستقبل والأمن والأمان. وكانت دارت همسات في بداية تشكيل الحكومة الإئتلافية حول "الانسجام الوزاري" أو بصورة أصح الانسجام بين الوزراء ثم تحولت الى اشاعات وأحاديث صالونات، ولكن حرية الإعلام والكلام نقلتها الى العلن فتحدث عنها الناس ثم أخمد نارها رئيس الحكومة والناطق بإسمها، ولا أكشف سراً إذا قلت أن محور كل هذه الأحاديث كان يدور حول شخص السيد إدريس البصري وزير الداخلية ودوره ونفوذه داخل الوزارات الأخرى ولا سيما وزارة الإعلام، وفي جهازي التلفزة والإذاعة بالذات وفي مراكز عمال الأقاليم أو المحافظين وازدادت وتيرة الأحاديث بعد اتخاذ السيد البصري مبادرات منفردة عدة بينها قضية حاملي شهادة الدكتوراه العاطلين من العمل الذين اعتصموا لفترة طويلة ثم قابلهم وحدد لهم موعداً مع الملك الحسن الذي أصدر تعليماته بإيجاد وظائف لهم، ثم في الإعلان عن تسوية الملفات العالقة المتعلقة باحترام حقوق الإنسان وقضايا المعتقلين السياسين والمختفين. ولكن العارفين ببواطن الأمور في المغرب يدركون أن هذه الأحاديث هي بمثابة "زوبعة في فنجان" لا بد أن تتلاشى لوحدها خصوصاً أن الملك الحسن متمسك بتجربة التناوب وحريص على انجاحها مهما كلف ذلك من ثمن، كما أن السيد اليوسفي اتخذ سلسلة من الإجراءات محل الاشكالات منها مالي ومنها إداري ومنها تنظيمي بتعيين عمال أو محافظين جدد وحصر صلاحية كل وزير بشؤون وزارته ومنها ما يتعلق بالانضباط العام. كما أن وزير الإعلام قدم خطة لمعالجة وضع وزارته وتطوير برامج التلفزيون وانهاء ازدواجية الصلاحيات منطلقاً من سمعته وخبرته وسعة معرفته بشؤون الإعلام منذ كان الوزير محمد العربي المساري صحافياً ثم رئيساً لتحرير "العلم" وكاتباً ونقيباً للصحافيين المغاربة. أما السيد البصري، الصامت الأكبر، فهو يرفض الخوض في غمار هذه الأحاديث ويكتفي بالابتسام عند سؤاله عن حقيقة التناقضات، فيما يؤكد المقربون منه أنه منسجم مع نفسه ومع توجهات انجاح التجربة والتعامل مع الوزير الأول حسب الأصول، وأنه مرتاح لثقة الملك به ولحمله أهم ملفين وهما ملف الصحراء وملف الأمن الذي يشهد به للمغرب مما يوحي بأن موقفه يظل قوياً طالماً أنه يجمع كل هذه الأوراق. أما السيد اليوسفي فقد رد على "الأحاديث" بقوله: ان الرأي العام يثق في الحكومة لأنها قريبة من انشغالاته وهو مرتاح الى عملها وتضامن أعضائها... انها تجربة لا رجعة فيها ومحكوم عليها بالنجاح مضيفاً أن البلاد تعيش هذه التجربة ليس من باب الترف السياسي ولكن استجابة لضرورات تبعاً لقناعة القوى السياسية وأصحاب القرار السياسي". وتبعه السيد خالد عليوه وزير العمل والناطق بإسم الحكومة ليقول: نحن في حكومة متعددة ومن الطبيعي أن تكون هناك آراء متعددة، وهذه حال يمكن أن تحدث في البلاد الأكثر ديموقراطية ولها تقاليد أشد عراقة. ويضيف: ان التعددية التي يعيشها المغرب تنتج عنها حساسيات في مقاربة الملفات ويمكن أن تختلف من قناعة سياسية الى أخرى أو من عضو في الحكومة الى آخر. هذه التطمينات يمكن أن تبرد الأجواء من دون الاستخفاف بالواقع المعروف. ومع هذا يجب عدم التوقف عند مثل هذا الأمر طويلاً لأن الحكومة الحالية تواجه تحديات كبرى على كافة المستويات ولم تبدأ مقاربة الاستحقاقات إلا خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد أن تم اقرار الموازنة العامة بعد تأخير ونقاش دام أكثر من ستة أشهر في مجلس المستشارين الذي لا تسيطر عليه الحكومة التي مررتها في مجلس النواب بعد إدخال عدة تعديلات على المشروع الأساسي، وهذا أيضاً يدخل في نطاق التجربة الجديدة التي رافقت تجربة "التناوب" وهي تجربة الغرفتين في السلطة التشريعية: مجلس النواب ومجلس المستشارين. ولو تجاوزنا المعضلة السياسية وقضايا حقوق الإنسان والتيار الأصولي العدل والإحسان والجمعيات الأخرى يبقى الشأن، أو الهم الاقتصادي هو المحك، وهو الأهم وهو الفيصل في نجاح التجربة المثيرة. وهذا ما اعترف به اليوسفي نفسه عندما قال: ان نجاح تجربة التناوب يتوقف بالدرجة الأولى على حيوية الحكومة وعلى الدعم الذي يستفيد منه لتخفيف عبء الدين الخارجي للمغرب، مؤكداً أن المعالجة السياسية مهمة وتسبق المعالجة التقنية. فمن المعروف أن الدين الخارجي بلغ هذا العام أكثر من 22 بليون دولار وأن خدمته تكلف الخزينة أكثر من 5،3 بلايين دولار سنوياً تلتهم الأخضر واليابس وتأخذ من طريق مشاريع التنمية. وهكذا يمكن القول أن الهموم كثيرة... والآمال كبيرة بنجاح تجربة التناوب لعلها تعمم في المستقبل وسط فريق يخاف عليها... وفريق يخاف منها. * كاتب وصحافي عربي.