كميل الطويل الحركة الاسلامية المسلحة في الجزائر من "الانقاذ" الى "الجماعة" دار النهار للنشر، بيروت 1998 337 صفحة بعد مضي نصف قرن ونيف على ظهور الدول العربية ذات المحتوى القطري او الجهوي او العشائري - القبلي، ما زالت هذه الدول بايديولوجياتها المتنوعة من شعبوية وقومية وماركسية و"ليبرالية" واسلاموية تعاني أزمات النمو والنشأة والتطور ذاتها وهي أزمات قديمة - متجددة تعكس الى حد ما خللاً وارتكاساً في العلاقة الناظمة للسياستين الداخلية والخارجية. ويتمثل هذا الخلل بأشكال مختلفة من عملية اخضاع انتقائية - في غالب الأحيان - احدى السياستين لمتطلبات الأخرى، أو في الفصل التعسفي بين هاتين السياستين. وعلى هذا الأساس تنشب وتتجدد أزمات قديمة تقود الى تجديد وعصرنة الدولة التسلطية من جهة أولى والى نزاعات وحروب أهلية كارثية من جهة ثانية. ومن القضايا التي ما زالت على خلفيتها تتجدد أزمة الدولة في الوطن العربي قضية العلاقة ما بين الدين والدولة التي فشلت وبنسب مختلفة التيارات الشيوعية والقومية والليبرالية والاسلامية في تحديد أسس موضوعية لمعالجتها تتلاءم مع روح العصر من جهة ودرجة التطور والتقدم الذي تقف عندها المجتمعات العربية من جهة ثانية. والتيار الأخير شأنه كشأن التيارات السابقة لم يكن تياراً متماسكاً بل تعرض لجملة انقسامات بنيوية على خلفية الاختلاف على وسائل امتلاك ناصية الدولة وادارتها. وهذا ما يحاول الكشف عن جوهره الباحث كميل الطويل في كتابه الموسوم: "الحركة الاسلامية المسلحة في الجزائر من "الانقاذ" الى "الجماعة" الذي طرح في مقدمته رزمة اسئلة حول التيار الاسلامي الجزائري المسالم والتيار الاسلامي الجزائري "الحربجي" ونهاية الصراع الناشب بينهما. فهو يتساءل "لمن تكون الغلبة فيه الصراع؟ هل تكون لتيار التعايش مع الواقع ومحاولة الافادة من المتاح وتبني أفكار التعددية والديموقراطية والتغيير السلمي؟ أم تكون لتيار التشدد الذي يرفض الديموقراطية والتعددية ويعتبر الجهاد وسيلته لاقامة "الدولة الاسلامية"؟". وبغية تقديم اجابات ضمنية عن هذه الأسئلة لجأ المؤلف الى عدم الخوض في عمق أزمة الدولة في الجزائر، واكتفى بتركيز جهده التأريخي حول التعريف بهوية أحد طرفي الأزمة المتمثل في الجماعات الاسلامية، وبصورة رئيسية: الجبهة الاسلامية للانقاذ الغيس والجماعة الاسلامية المسلحة. ولذلك عرّف كتابه بأنه "بحث في أصول نشأة "الانقاذ" و"الجماعة" وفي طريقة تعاطيهما مع الأزمة الجزائرية. انه محاولة لتأريخ مرحلة بالغة الأهمية من تاريخ الجزائر الحديث. انه طرح يعيشه العالم الاسلامي اليوم. أزمة يحاول كثيرون تجنبها والتظاهر بأنها غير موجودة". وتجلى السياق العام لجهد المؤلف في القضايا التي طرحها في فصول الكتاب. ففي الفصل الأول الجبهة الاسلامية للانقاذ تناول الموضوعات التالية: تيار "الجزأرة"، وتأسيس الجبهة الاسلامية للانقاذ وانضمام تيار الجزأرة اليها، والتحولات داخل "الانقاذ" خلال فترة الاضراب في أيار مايو 1991، ومؤتمر باتنة الذي نتج عنه ظهور قيادة جديدة للانقاذ بعد اعتقال قيادتها المؤسسة. وفي الفصل الثاني عرض لنشأة جماعة بويعلي مصطفى المسلحة ولجماعات كل من الملياني ومحمد علال موح ليفيي وجماعة التكفير والهجرة. كما عالج منهج عمل "الجماعة المسلحة استنادا الى بياناتها التأسيسية وخاصة البيان رقم 2 المؤرخ في 12 كانون الثاني يناير 1993 وأقوال أميرها السابق عبدالحق العيايدة التي تتمحور حول رفض الديموقراطية والتعددية وانتقاد سياسة "الانقاذ" من العمل المسلح، ومبررات "الجهاد" المتمثلة في: "سقوط الخلافة" وابتعاد الحركات الاسلامية عن "استعمال القوة ورفع السلاح وسلوك درب الجهاد"، و"نجاح" التجربة الأفغانية، والتي لخصها بالآتي: "اننا ما أقدمنا على هذا الأمر اعلان الجهاد الا بعد معرفة الأدلة الشرعية الموجبة للجهاد. ونحن اليوم نعجب ممن أفتوا بكون الجهاد فرض عين في افغانستان، ولم يفرضوا الجهاد في الجزائر وغيرها من بلاد المسلمين مع ان المعطيات الحاملة على اصدار الفتوى في افغانستان هي ذاتها الموجودة اليوم في الجزائر وغيرها ... اظهار هذا الدين لا يجب أن يكون في الجزائر فقط، بل يجب أن يعم العالم بأسره. نريدها خلافة اسلامية راشدة، وليست قومية عمية جاهلية!! ونحن نطمح ونرجو من الله أن نكون من الجنود الفاتحين لروما ... نعم روما. فقد جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ستفتح عليكم رومية"! وعرض المؤلف في الفصل الثالث "بدء العمل المسلح" لتحولات استراتيجية "الانقاذ" بعد الغاء نتائج الانتخابات وانتقالها من استراتيجية المواجهة الشعبية السياسية الى استراتيجية المواجهة المسلحة وتشكيل الجيش الاسلامي للانقاذ. اضافة الى عرضه لتطور مواقف "الجماعة المسلحة" وخلافاتها مع "الانقاذ" ازاء عمليات الاغتيال واستهداف الصحافيين والمثقفين والأجانب وخاصة الفرنسيين. ليتابع لاحقاً في الفصل الرابع رصد ما طرأ على جبهة "الانقاذ" خارج الجزائر من متغيرات بنيوية مثل تأسيس "الهيئة التنفيذية" عام 1993، وتوحد "الانقاذ" في الداخل مع كل من "الجماعة المسلحة" و"حركة الدولة الاسلامية" في 13 أيار مايو 1994. مكملاً هذا العرض في الفصل الخامس الذي تناول فيه مسيرة تأسيس "الجيش الاسلامي للانقاذ"، وانشقاق حركة الدولة الاسلامية، وخروج أنور هدام وأحمد الزاوي من الهيئة التنفيذية للانقاذ في الخارج، وبدء الحوار بين السلطة وشيوخ "الانقاذ" على خلفية رسالتين بعث بهما الشيخ عباسي مدني من معتقل بليدة العسكري في 30 آب اغسطس 1994 الى رئاسة الدولة تضمنتا الخطوط العامة لخطة تستهدف حل الأزمة. أما على صعيد "الجماعة المسلحة" فعرض المؤلف لخلافاتها بعد مقتل أميرها القواسمي وتولي جمال زيتوني قيادتها، وهذا ما أسهب فيه المؤلف في الفصل السادس الذي عالج فيه أربعة مواضيع أساسية هي: التشدد في منهج "الجماعة" ازاء فرنسا مثلاً. وأساليب سيطرة زيتوني على "الجماعة" وموقفه من الجناحين السياسي والعسكري ل "الانقاذ"، وموضوع الفتاوى المتشددة مثل: فتوى قتل نساء المرتدين، وموضوع منهج عمل "الجماعة المسلحة" الذي أوضحه زيتوني في كتابه "هداية رب العالمين في تبيين أصول السلفيين وما يجب من العهد على المجاهدين" حيث أن "الجماعة المسلحة" "لا تتحالف مع أي جماعة أخرى تخالف الكتاب والسنّة وهدي السلف ... وتعتبر مؤسسات الدولة... مؤسسات ردة". وفي الفصل السابع عرض المؤلف بشكل مفصل لعملية تصفية قادة تيار "الجزأرة" ولانقسامات "الجماعة المسلحة" داخل وخارج الجزائر، ولعملية خطف ولاحقاً قتل سبعة رهبان فرنسيين في 21 أيار 1996. ليتابع في الفصل الثامن عرض ما شهدته أوضاع "الجماعة المسلحة" في عهد امارة عنتر الزوابري ومحاولاته اعادة الوحدة لصفوف "الجماعة" داخل وخارج الجزائر واعادة شرح فكر الجماعة في كتاب عنوانه "السيف البتار في الرد على من طعن في المجاهدين الأخيار وأقام بين أظهر الكفار" الذي أصدره عبدالمؤمن الزبير مع محمد رضوان رداً على الاتهامات الموجهة الى "الجماعة المسلحة" ازاء عدد من القضايا الخلافية التي شهدتها الحركة الاسلامية الجزائرية، ومنها الاتهامات التي توجه الى "الجماعة" انها أدخلت بدعة على الاسلام. واتهام "الجماعة" بتصفية "الأفغان" فيها وابعادهم عن امارتها. وأيضاً اتهامها "الجماعة" بأنها تحمل فكراً خارجياً، وأنها بالتالي جماعة من جماعات التكفير والهجرة. وازاء هذا الاتهام يقول الزبير بوجود نقطة خلاف محورية بين "الجماعة المسلحة" والتكفيريين هي قضية "العذر بالجهل" الذي يرفضه التكفيريون وتقبله "الجماعة" "اي انها لا تقتل إلا إذا أصر المبتدع على بدعته". ويعتبر الزبير ان "الجماعة" رُميت بفكر التكفير لأنها كانت تلتقي مع التكفيريين في العهد الديموقراطي عند نقطة تكفير الديموقراطية التي كانت الجبهة الاسلامية للانقاذ تسير فيها. هكذا ابتدأ عهد المذابح الدموية في الجزائر فمقابل تصاعد اعتدال الجبهة الاسلامية للانقاذ تصاعد عنف "الجماعة". وهذا ما بُحث في الفصل التاسع "هدنة الانقاذ" حيث تم تناول الكيفية التي تم على أساسها تبني "الانقاذ" لخيار السلم بعد انعقاد مؤتمر "العقد الوطني" في روما في كانون الثاني 1995، مروراً بنداءات مدني ومزراق وبدء الحوار مع الحكم. بعد هذا العرض المكثف للموضوعات التي عالجها المؤلف الذي بذل جهداً كبيراً في تتبع ورصد تفاصيل مسيرة "الانقاذ" و"الجماعة" مستعيناً بحشد من الوثائق والمقابلات الشخصية، يمكن القول انه لجهة التأريخ لمرحلة مهمة من تاريخ الجزائر الحديث كانت عملية التأريخ تقف على قدم واحد أو كانت تأريخاً لنموذجين "متناقضين" من النماذج التي أفرزتها تجربة الحركة الاسلامية الجزائرية، لذا جاءت عملية التأريخ منقوصة اذ لم يلحظ المؤلف تفاعلات مهمة بين أجنحة الحركة الاسلامية الجزائرية تمت ليس فقط بين "الانقاذ" و"الجماعة" بل بين كلتي الجماعتين الاسلاميتين وحركة المجتمع الاسلامي حماس وتشكيلاتها اللاحقة وحركة النهضة الاسلامية. كما انه خارج الاطار الحركي الاسلامي كانت هنالك تفاعلات بين التيار الاسلامي وتحديداً أجنحة منه مع التيارات الأخرى كالتيار القومي والتيار العلماني اللائكي كانت لها انعكاسات واضحة على الأزمة الجزائرية. يضاف الى ذلك ان عملية التأريخ شرطها الأساسي هو الموضوعية المترافقة بتحليل عميق لجوهر الأزمة أو الصراع الذي على أساسه تظهر قوى سياسية تتعرض لجملة من المتغيرات في سياق الصراع ووفق القوانين التي تحكمه وعلى أساسها يقدم المؤرخ تحليله للتحولات التي طرأت على مواقف وبنى القوى المنخرطة بالصراع. وبخلاف ذلك نكون أمام نمط من أنماط التوثيق الذي يغلق فجوة معرفية أو معلوماتية لكنه يبقى عملاً مجزوءاً لا يتضمن موقفاً أو رؤية تحليلية موضوعية تساعد الباحث أو القارئ المراقب على استشراف النهايات المحتملة لأزمة حادة تتعلق ببنية ووظيفة الدولة وعلاقتها بالمجتمع، هي أزمة قادت الى نتائج مدمرة تحت وطأة عنف وعنف مضاد مارسته الأطراف المنخرطة فيها، وهي بطبيعة الحال أطراف مأزومة ببناها الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا العمل لا يقدم رؤية شاملة لأزمة الطرف الاسلامي في الأزمة الجزائرية نظراً لغياب المتابعة الدقيقة للخروقات التي تعرضت لها بنية كل من "الانقاذ" و"الجماعة" سواء من قبل أجهزة ومؤسسات الحكم، لا سيما الأجهزة الأمنية، أو من قبل جهات خارجية نجحت في إحداث خروقات أمنية وسياسية وربما ايديولوجية داخل "الانقاذ" و"الجماعة المسلحة" في محاولة منها لتعميق الأزمة واستثمارها بما يتلاءم ومصالحها الحيوية والاستراتيجية راهناً ومستقبلاً. وعموماً، يبقى هذا العمل رغم بعض نواقصه عملاً توثيقياً مهماً يستكمل اضاءة بعض جوانب الأزمة الجزائرية التي لم توضحها بعناية كتابات ومؤلفات سابقة لكتاب عرب وجزائريين بحثت في جوانب مختلفة من هذه الأزمة