كوفي أنان قد ينزع فتيل الانفجار في آخر لحظة، كما نرى في افلام الإثارة عندما يبدأ العدّ العكسي للثواني فيأتي البطل ويعطّل القنبلة وقد تكون نووية او كيماوية عند الثانية الاخيرة قبل الصفر. والأمين العام قد يعود باتفاق يرضي الاميركيين او لا يرضيهم. ولكن نعود الى البداية ونسأل ما سبب الأزمة الحالية مع العراق؟ تقول الادارة الاميركية ان سبب الأزمة الحالية مع العراق انه يملك أسلحة دمار شامل يهدّد بها جيرانه والعالم. ولكن الإدارة هذه لا يمكن ان تقنع مواطناً واحداً في الشرق الاوسط بأنها مستعدة لخوض معركة كبرى ضد العراق، خوفاً عليه، وهو طبعاً لم يطلب منها ان تدافع عنه، لذلك فقد حصر السبب الاسترالي ريتشارد بتلر، رئيس فريق التفتيش الدولي، الذي قال ان أسلحة صدام حسين تهدّد اسرائيل. هل يهدد صدام حسين اسرائيل فعلاً؟ لا نجيب نحن، وانما نختار من كلام لوزير الدفاع الاسرائيلي أيام حرب الخليج، موشي أرينز، فهو قال في مقابلة مع صحيفة "معاريف" الاسبوع الماضي ان خطر صواريخ صدام ليس قريباً من الصفر، بل هو صفر. واوضح أرينز ان صداماً لم يبق له سوى جزء صغير جداً من قوته العسكرية السابقة، وفي جميع الاحوال فهو أطلق صواريخه على اسرائيل سنة 1991 لكسر التحالف الدولي ضده. اما اليوم فلا تحالف قائماً، لذلك فخطر الصواريخ غير موجود، وهو في رأي أرينز لا يزيد على خطر سقوط السقف على انسان في بيته، فهل يرتدي الانسان قبعة حديدية في البيت لحماية نفسه من مثل هذا الخطر. نزيد على منطق أرينز ان النظام العراقي يقول مرة بعد مرّة، وحتى اليوم، انه دمّر ما عنده من اسلحة دمار شامل، فلو جاء غداً، وأطلق صواريخ برؤوس كيماوية او بيولوجية على اسرائيل لأظهر كذبه، ولأعطى مبرراً للعالم كله لتنظيم تحالف جديد يقلب النظام نفسه. على كل حال، أرينز ليس أقلية في رأيه عن الأزمة، و"واشنطن بوست" نشرت الاسبوع الماضي تحقيقاً من اسرائيل كتبه لي هوكستادر الذي تحدث مع مسؤولين حاليين وسابقين فجاء عنوانه "كثيرون في اسرائيل يشكّون في فائدة ضرب العراق"، مع عنوان فرعي يقول "بعض يرى ان الغارات قد يكون لها مفعول عكسي". الاسرائيليون يقولون هذا، ومع ذلك فهناك في الولاياتالمتحدة كاثوليك اكثر من البابا او اسرائيليون اكثر من يهود اسرائيل، لذلك قال تعليق في "وول ستريت جورنال" الاسبوع الماضي، كتبه رون سيلفر، وأسمه يدلّ على أصله "دعوا اسرائيل تدافع عن نفسها ضد العراق". مثل هذا التعليق فُصِّل على قياس رئيس وزراء اسرائيل النجس بنيامين نتانياهو، فهو لتحويل الأنظار عن تدميره عملية السلام، وللتنصل من التزامات اسرائيل بموجب المرحلة الثانية من الانسحابات، خلق جواً محموماً من التخويف وكأن الصواريخ العراقية ستنهمر على الاسرائيليين غداً هناك تقرير رسمي للأمم المتحدة يقول انه لم يبق للعراق صواريخ. هذا الجو المصطنع جعل اسرائيليين كثيرين يسافرون الى اوروبا واميركا هذا الشهر، حتى أصبحت الرحلات الجوية كلها ملأى حتى نهاية الشهر، فيما يتسابق الاسرائيليون للحصول على الأقنعة الواقية من الغاز الى درجة التعارك أمام مراكز توزيعها. ويجب التذكير هنا بأن صدام حسين أطلق على اسرائيل 39 صاروخاً سنة 1991، لذلك هناك مبرر للخوف، الا ان الحقيقة هي ان القوة العسكرية العراقية دُمّرت بفضل جنون القيادة السياسية التي هاجمت بلداً عربياً جاراً شقيقاً في مغامرة كارثية، تكاد تكون من نوع الانتحار السياسي بالاضافة الى الانتحار الاخلاقي. هذه القيادة تركت العراق مستباحاً، بل سهّلت عن طريقه استباحة بقية الدول العربية، بعد ان وصلنا الى وضع يُدَمَّر فيه العراق بحجة وجود اسلحة غير موجودة، في حين ان اسلحة نووية وكيماوية وبيولوجية موجودة في اسرائيل مع وسائل ايصالها الى اهدافها، ومع ذلك ترفض الولاياتالمتحدة الحديث عنها، ناهيك ان تطالب الاممالمتحدة بقرار ضدها، او تحاول فرض عقوبات على اسرائيل بسببها. وتقول وزيرة الخارجية الاميركية السيدة مادلين اولبرايت في كل مجلس ان اسلحة اسرائيل "غير" وضع العراق. وبما ان وضع اسرائيل "مختلف" فقد قرّرت الولاياتالمتحدة ارسال بطارية صواريخ باتريوت الى اسرائيل مع طاقم اميركي كامل لتشغيلها. مع انها لا يجوز ان تكون اكثر قلقاً على اسرائيل من وزير دفاع اسرائيلي اعتُبر دائماً بين الصقور. وكانت الولاياتالمتحدة ارسلت ادوية واجهزة متقدمة تحسباً لهجوم عراقي بالاسلحة الكيماوية والجرثومية على اسرائيل، كما ارسلت ذخيرة ومساعدات اخرى، لأن ما يهمّها اولاً واخيراً أمن اسرائيل لا أي دولة اخرى في المنطقة تزعم الادارة الاميركية ان العراق يهددها. وهي لو نظرت حولها لرأت ان داخل الولاياتالمتحدة متطرفين يملكون اسلحة جرثومية وينوون استعمالها عندما تسنح لهم فرصة. النظام العراقي مذنب، الا ان الادارة الاميركية ليست بريئة، وقناعة أرينز ان لا خطر على اسرائيل، وبالتالي على المنطقة ليس سببه الثقة بكلام النظام العراقي، بل معرفة ابسط حقائق الوضع في الشرق الاوسط، فعندما كان العراق في أوج قوته العسكرية، خسر الحرب البرية في مئة ساعة من دون ان يستعمل اي اسلحة دمار شامل. وكان من نتيجة الحرب ان دُمّر اكثر القوة العسكرية العراقية، فلم يبق غير الوحدات التي تضمن بقاء صدام حسين في الحكم، وتبع ذلك سبع سنوات من الحصار والعقوبات حتى الآن، ومع ذلك يريد الاميركيون منا ان نصدّق ان القوة المسلحة التي بدت نمراً من ورق سنة 1991 هي اليوم نمر بمخالب وأنياب. وفي النهاية فإذا كان الطلاب الاميركيون لا يصدّقون حكومتهم فلماذا ينتظر منّا ان نصدّقها نحن.