بهذا المنطق واجه رئىس وزراء اسرائيل مناحيم بيغن موقف المترددين في حكومته عام 1980. وقال في تبرير قرار تدمير المفاعل العراقي ان الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية كان باستطاعتها إلغاء الظروف التي قادت الى الحرب العالمية الثانية لو انها ضربت هتلر في البداية ومنعت تحقيق برنامجه العسكري. وبمثل هذا المنطق برر الرئىس الاميركي بيل كلينتون هدف الضربة الوقائية التي يهدد بها العراق. وعلى سؤال يتعلق بالحل العسكري اجاب: "السؤال المحدد هو: هل يمكن لأي حل عسكري اذا فشلت الجهود الديبلوماسية في ان تحدّ او تؤخر بشكل كبير من قدرة صدام حسين على بناء اسلحة الدمار الشامل وتوجيهها نحو جيرانه؟ انا مقتنع بأن الاجابة عن هذا السؤال... هي نعم. ذلك هو المعيار الذي ابني عليه قراري". ويُستخلص من هذا التبرير ان كلينتون استخدم حجة مناحيم بيغن ليواجه بها منتقدي الحل العسكري. ولكن هذا المنطق لم يقنع الزعماء العرب الذين أبلغوا الوزيرة مادلين اولبرايت ان اسرائيل هي المعنية مباشرة بكلمة "الجيران"... وان رئيس فريق التفتيش كان واضحاً في تحديد الخطر عندما اعلن ان لدى العراق صواريخ كيماوية وبيولوجية يصل مداها الى تل أبيب. في ضوء المقارنة بين الموقفين المتلازمين لأسباب توجيه ضربة وقائية تدمّر الترسانة العراقية، يُطرح السؤال الأول: لماذا تستعجل الولاياتالمتحدة موعد تنفيذ الضربة العسكرية، وما هي الضغوط التي حملتها على اتخاذ قرار التصعيد؟ التفسير المبسّط يعطي فضيحة مونيكا لوينسكي بعض الأرجحية على اعتبار ان الرئىس كلينتون يريد افتعال ازمة خارجية تنسي الاميركيين ورطته الداخلية. ولكن المخاطر التي ستترتب عن الضربة العسكرية تحتاج الى مبررات مقنعة اقوى بكثير من الحاجة الى تغطية فضيحة مونيكا. وهذه المبررات موجودة في المعلومات التي قدمها صهر صدام حسين اثناء اجتماعه المطول برئيس المخابرات المركزية سي.أي.اي في عمّان. يومها كشف حسين كامل عن اسرار حاول العراق اخفاءها عن مراقبي الأممالمتحدة، وخلاصتها ان صدام امر بانتاج السلاح البيولوجي في شكليه الفتاكين الانتراكس والبوتلين. واعترف بأن العراق بدأ خلال شهر آب اغسطس 1991، بإعداد 75 رأساً بيولوجية، وان القرائن موجودة في مزرعته الواقعة على مسافة 40 كلم جنوب شرق بغداد. ومن المؤكد ان السلطات العراقية سارعت الى اخفاء بعض الأدلة، ولكنها لم تكن تتوقع من حسين كامل الكشف عن دوره هو في برنامج التسلح. ولما دهم مراقبو الاممالمتحدة مزرعة الدواجن عثروا على 150 صندوقاً حديداً تحتوي على مليوني وثيقة و"ألبومات" صوَر وأشرطة ال"ميكرو فيلم". وبسبب اتفاق التحالف الاستراتيجي القائم بين الولاياتالمتحدة والدولة العبرية وضعت واشنطن كل المعلومات التي حصلت عليها تحت تصرف اسرائيل. ومنذ ذلك الحين بدأ رئيس فريق التفتيش رالف اكيوس يتحدث عن امتلاك العراق أسلحة غير تقليدية. ثم جاء خلفه بتلر ليعلن ان لدى الجيش العراقي من ال"انتراكس" ما يكفي لإحراق كل تل ابيب. وهو يدعي ان السلطات العراقية افتعلت الازمة الاخيرة لأن رجاله اقتربوا كثيراً من ترسانة السلاح البيولوجي، الامر الذي دفع طارق عزيز الى طرد المفتشين. وحدث اثناء اجتماع بتلر بزعماء الجالية اليهودية في نيويورك ان حدثهم باسهاب عن مداهمة مصنع ناءٍ تقول المعلومات انه يستخدم لإخفاء اسلحة خطيرة محفوظة في حاويات ضخمة. وقال ان الحراس افتعلوا مشكلة لعرقلة دخول المفتشين من الباب الرئيسي الى حين تهريب الحاويات بالشاحنات من الباب الخلفي. وفي التقرير الذي رفعه الى الأممالمتحدة ما يشير الى ان العراق يملك اجهزة لانتاج الصواريخ... وان المفتشين اخرجوا من قناة فرعية لنهر الفرات 30 جهاز توجيه لصواريخ ارض - ارض من طراز روسي. كما اكتشفوا عشرات محركات الصواريخ في مواقع مختلفة، الأمر الذي يعزز الشكوك بأن العراق يخفي اسلحة فتاكة. استناداً الى هذه المعلومات التي قدمها بتلر الى زعماء الجالية اليهودية، قررت اسرائيل القيام بضربة وقائية بررها نتانياهو بمنطق مناحيم بيغن القائل بأن اسرائيل يجب ان تدمّر كل سلاح يهدد أمنها حتى لو اقتضى ذلك مهاجمة مصانع في ليبيا او ايران او باكستان، ولقد ازداد التوتر في اسرائيل عندما اعلن وزير الدفاع الاميركي بأن الجنود في الخليج سيتلقون جرعات مناعة ضد ال"انتراكس". وربما استند الى تقرير بتلر القائل بأن العراق يملك ترسانة من هذه المادة، وان لديه 75 رأساً صاروخية لا نعرف مكانها. علماً بأن طارق عزيز نفى هذه الادعاءات وقال ان بلاده دمرت ترسانتها الصاروخية. خلال زيارته الاخيرة لواشنطن ابلغ وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي ان اسرائيل قررت القيام بضربة وقائية ضد العراق في سبيل شل قدرته الهجومية البعيدة. ولما اعترض الاميركيون على الفكرة بحجة ان منصات اطلاق الصواريخ في العراق لا تزيد على ثمانية - بحسب معلوماتهم - قال موردخاي ان الجيش العراقي يضم لواء خاصاً بأسلحة "سكود" منذ سبع سنوات، وأنه طوّر صواريخ جديدة افضل من "سكود" و"الحسين" مخبأة في مكان ما في الصحراء. وحاولت الادارة الاميركية ثني الحكومة الاسرائيلية عن هذه العملية بحجة ان صدام حسين ارسل اليها اشارات سياسية مهدئة مع بعض السفراء العرب، يفهم منها انه لا ينوي ضرب اسرائىل إلا ان نتانياهو رفض كلمات التطمين، واعتبر ان صدام حسين شخص يصعب التنبؤ بسلوكه. ولقد ابلغ آل غور خلال محادثاته الاخيرة في واشنطن ان الوضع اليائس الذي حشر فيه صدام يجعل من ضرب تل ابيب مخرجه الوحيد.وعلى رغم اختلاف ظروف 1998 عن ظروف 1991، إلا ان الولاياتالمتحدة قررت مواجهة صدام حسين ببلورة ائتلاف دولي - اقليمي دشّنته بريطانيا والسبب ان التحالف السابق لم يعد قائماً، وأن الدول العربية التي انضمت اليه عام 1991 لم تفقد ثقتها بالحل الديبلوماسي. وفي اطار التجمع الدولي الجديد قررت ادارة كلينتون ضرب نظام صدام حسين لكي تطمئن اسرائيل اولاً، وتمنعها من تسديد الضربة، ثانياً. وفي تقدير واشنطن ان مشروع سلام الشرق الأوسط سيُدفن نهائياً اذا اقدمت اسرائىل على ضرب العراق، الامر الذي يخلق مرحلة خطرة تفرض على دول عربية تفريغ ترساناتها باتجاه المدن الاسرائيلية. ومعنى هذا ان القدرة الردعية ستفلت من عقالها وان المنطقة ستتحول الى اتون ملتهب. ولكي تتفادى الولاياتالمتحدة هذه النتائج الخطرة، قررت هي تسديد الضربة العسكرية على امل ان تفتح لها طريق سلام الشرق الاوسط، وتقنع نتانياهو بأهمية تطبيق مبادئ مدريد واتفاق اوسلو. ارتضى رئىس وزراء اسرائىل التنسيق مع واشنطن، لكنه لم يعِد بضبط النفس اذا وصلت الصواريخ العراقية الى مدن بلاده، واحتفظ لنفسه بهامش التدخل لأن الاعتماد على القوة الاميركية وحدها سيدمر القدرة الردعية الاسرائيلية. وفي حساب واشنطن ان صدام حسين يهمه جرّ اسرائىل الى خضم النزاع لكي يحوّل اتجاه المعركة. بينما تبدو الضربة الاميركية المتوقعة وكأنها عمل وقائي يشمل دول الخليج واسرائيل باعتبار ان الصواريخ العراقية موجّهة نحو الجميع. مع بداية العدّ العكسي يوم الاثنين المقبل، 16 الجاري تبدأ الاسئلة السياسية تتردد حول توقيت العملية، ومدتها، والغاية الاساسية من حدوثها. ولقد ارتسمت علامات استفهام كبرى حول مضاعفاتها الاقليمية، وما اذا كانت نتائجها السلبية ستتعدى حدود العراق، ام انها ستنحصر في ايذاء الجسم العسكري فقط؟! خصوصاً أن الفترة الزمنية المعطاة لصدام حسين بدأت تضيق حتى نهاية الشهر... وأن رفض واشنطن تراجعه الاخير يشير الى النية المبطنة لقصف العراق. ومع اتساع موجة الاحتمالات تخشى الدول العربية ان تستغل القيادات الكردية حال الفوضى والفراغ لإحكام سيطرتها على شمال العراق وإعلان دولة كردستان المستقلة. وعندما اثير هذا الاحتمال مع الوزيرة اولبرايت قالت ان بلادها تحرص على وحدة العراق، وأن تركيا التي منعت انشاء الدولة الكردية في عهد كمال اتاتورك، جاهزة بعد 78 عاماً لمنع قيامها. وفي هذا السياق ترتفع المخاوف العربية ايضاً من احتمال توسيع المنطقة العازلة التي حددت انقرة عمقها ب 15 كلم، الى السيطرة على آبار النفط. وترى القيادة السياسية والعسكرية في انقرة ان "رجل اوروبا المريض" حرم من هذه المنطقة الغنية بالنفط اثناء تقسيم تركة الامبراطورية العثمانية المنهارة. واذا كانت اسرائيل قد كسرت ما يعرف بحدود خريطة سايكس - بيكو، فلماذا لا يحق لحليفتها الجديدة أن تسترجع ما تعتقد انه سلب منها، خصوصاً وأن الوضع العراقي اصبح مشاعاً ومفرغاً من سلطة الدولة المركزية؟ ومن المؤكد ان هذا التغيير يفرض تدخل ايران وسورية، ويجعل احتمالات الصدام مع تركيا امراً وارداً في كل حين. وهذا ما تشير اليه التعزيزات العسكرية السورية على الحدود التركية، الامر الذي دفع أنقرة للاتصال بدمشق وتطمينها. ولهذا حذر الوزير فاروق الشرع من ضرب وحدة العراق وتقطيع اوصاله الديموغرافية. الملك حسين ابلغ واشنطن ولندن اسباب مخاوفه من حدوث اشكالات اقليمية تؤثر مستقبلاً على الوضع الداخلي في الاردن. وفي تصوّر عمّان انه ترتب عن حرب تحرير الكويت زيادة 360 الف فلسطيني في الأردن. ولكن الموجة الجديدة المنتظرة قد تأتي من الضفة الغربية اذا انفجرت الانتفاضة الثانية تأييداً للعراق... او اذا ما نفذ نتانياهو تهديده باعادة احتلال الاراضي التي انسحبت منها اسرائىل. وفي هذه الحال تكون المنطقة قد دخلت مرحلة الخطوط الحمر. الديبلوماسيون والمحللون في الأممالمتحدة يستبعدون فكرة تغيير خريطة الشرق الاوسط على نحو يهدد مصالح الدول الغربية. وهم يميلون الى القول بأن كل رئىس اميركي يحاول اثبات نفوذه الخارجي بالاستقواء على زعيم دولة اخرى، وذلك تأكيداً لدور اميركا العالمي. في الستينات رمى كنيدي قفازه في وجه كاسترو ولكنه فشل في التغلب عليه. وفي السبعينات هاجم جونسون هوشيه منه فاذا به يعود من فيتنام خاسراً مخذولاً. وفي الثمانينات جرّب كارتر حظه مع الخميني فاذا بالمعركة تنتهي بتراجع الرئيس الاميركي. وثم جرّب ريغان حظه مع القذافي فلم ينجح في اسقاطه. ومع مطلع التسعينات قرر جورج بوش اخراج صدام حسين من الكويت، ولكن تلك العملية لم تخرجه من قصور بغداد. ويبدو ان في نية بيل كلينتون تكرار تجربة بوش لعله يثبت ان بلاده قادرة على لعب دور الشرطي العالمي، مع استثناء دولة واحدة من هذه القاعدة لا يسري عليها القانون الاميركي