تسود خيبة امل واسعة في دوائر صنع القرار الفلسطيني بعد الفشل الذي آلت اليه لقاءات واشنطن، ونجاح بنيامين نتانياهو في تمرير شروطه لتنفيذ اعادة الانتشار من دون ان يضطر لخوض مواجهة مع الولاياتالمتحدة. وباتت السلطة الفلسطينية على قناعة انها استنفدت اوراقها في مسعاها لاقناع واشنطن لممارسة الضغط على نتانياهو من اجل تنفيذ بنود اتفاق الخليل الذي كانت الولاياتالمتحدة الشاهد الوحيد عليه. وقبلت السلطة الفلسطينية بنود المذكرة الامنية التي اعدها ستانلي ميسكوفيتش مدير مكتب السي. اي. اي في تل ابيب التي تنظّم التعاون بين الاجهزة الامنية لكل من اسرائيل والسلطة، وعلى رغم مباركة قادة الجيش الاسرائيلي لهذه المذكرة رفض نتانياهو اعتمادها. ومع ذلك كشفت الايام الاخيرة ان الجانب الفلسطيني أبدى تعاوناً أمنياً مع اسرائيل على رغم رفض نتانياهو للمذكرة. وادى هذا التعاون الى احباط عمليات تفجير كانت تستهدف المدن الاسرائيلية، كما اعلنت السلطة انها على استعداد للسماح لضباط من CIA بزيارة السجون للتأكد من بقاء معتقلي "حماس" و"الجهاد" رهن الاعتقال، واثبات انه لا وجود لسياسة "الباب الدوّار" التي يدّعي نتانياهو ان السلطة تتبعها. ويقول الصحافي الاسرائيلي امنون دانكز ان نتانياهو يريد من الفلسطينيين ان يكونوا مجرد "مقاولين" لتنفيذ ما يتوافق مع سياساته الامنية وفي الوقت نفسه يواصل اتهامهم بالتقصير في المجال الامني. بينما يصرّح رئيس المخابرات العامة الاسرائيلية السابق يعكوف بيري للقناة الاولى في التلفزيون الاسرائيلي ان نتانياهو يريد من السلطة الفلسطينية اجتثاث البنية التحتية ل "حماس" و"الجهاد الاسلامي" من دون ان يكون ذلك مصحوباً بأي انجاز سياسي يمكن ان يقنع الشارع الفلسطيني بأن ثمة ثمن يمكن ان تدفعه اسرائيل، ويصف الامر بأنه "غير منصف وغير منطقي". وفي حين يصدر هذا الحكم عن مسؤول امني بارز، تؤكد حنان عشراوي ان الادارة الاميركية تطالب السلطة بألا تربط حربها مع الارهاب بالتقدم في العملية السياسية، كما ان الرئيس الفلسطيني ومن اجل قطع الطريق على نتانياهو قام بتسليم الرئيس كلينتون في لقائه الاخير رسالة يؤكد فيها الغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني بناءً على طلب اسرائيلي، على رغم ان الجنرال أورن شاحور الذي رأس الوفد الاسرائيلي المفاوض ابان حكم بيريز اكد ان المجلس الوطني قام بالفعل بالغاء الميثاق وان الفلسطينيين معفيون من اتخاذ اي خطوة اضافية في هذا المجال. لكن نتانياهو بعدما لاحظ التجاوب الفلسطيني عرض مطلباً جديداً، فهو الآن لا يطالب بالغاء بنود الميثاق الوطني، بل وبصياغة ميثاق جديد هآرتس 18/1/98، ويفسر الصحافي الاسرائيلي عكيفا الدار حرص نتانياهو على صياغة ميثاق جديد بعلم نتانياهو المسبق ان كل ميثاق جديد سيحتوي على بنود تشكّل حجة له للمطالبة بعقد جلسات للمجلس الوطني لالغاء الميثاق من جديد. وتعتبر قضية تسليم المطلوبين ضمن قائمة المطالب التعجيزية التي يطرحها نتانياهو ويتفهّمها الاميركيون في حين يقرّ قادة الامن الاسرائيلي باستحالة تنفيذها. فاسرائيل تطالب السلطة بتسليم 34 فلسطينياً لها بحجة تورطهم في عمليات "عدائية" ضدها، ويؤكد وزير العدل الاسرائيلي تساحي هنغبي ان قيام السلطة بتسليم 33 منهم يعني انها لم تقم بأي شيء، الا ان كارمي غيلون وهو رئيس المخابرات العامة الاسرائيلية السابق الذي تمت في عهده صياغة الملحق الامني للاتفاق، كتب مقالاً في "يديعوت احرونوت" 18/1/19998 انتقد فيه تشدد حكومة نتانياهو في هذا الطلب ويقول: "لقد كان قادة الاجهزة الامنية الاسرائيلية على يقين ان السلطة الفلسطينية من المستحيل ان تقوم بتسليم فلسطينيين لنا". ومع ذلك اعربت مادلين اولبرايت عن تفهّمها للطلب الاسرائيلي في لقائها مع ممثلي "أسر ضحايا الارهاب الفلسطيني" الذين رافقوا نتانياهو في زيارته الاخيرة لواشنطن، ووعدت بمطالبة عرفات بتسليم المطلوبين. ويوجز عضو الكنيست وعضو لجنة الخارجية والامن في البرلمان الاسرائيلي اوري اور غاية نتانياهو من طرح هذه المطالب قائلاً في مقابلة عرضتها القناة الاولى في التلفزيون الاسرائيلي: "لو أدى عرفات الصلوات ثلاث مرات في كنيس يهودي يومياً فلن يقنع نتانياهو بتنفيذ الاتفاقات". وقال حنان كريستال، وهو المعلّق السياسي في راديو اسرائيل باللغة العبرية: "لو قام عرفات بتقديم رؤوس قادة حماس على اطباق من فضة لنتانياهو فإنه وبسبب طبيعة ائتلافه الحاكم لن يقوم بتنفيذ ما وقّع عليه". امام هذا الواقع يطرح السؤال: ماذا بعد؟ فشلت جولات روس وانديك في اقناع نتانياهو بتنفيذ اعادة الانتشار كما حاولت اولبرايت ذلك، وعندما فشلت احالت كلاً من نتانياهو وعرفات الى الرئيس كلينتون لحسم الخلاف حول هذه المسألة، وذهب الوفد الفلسطيني الى واشنطن وهو يحمل ردوداً موضوعية على الاتهامات في مجال الامن، لكن لقاءات واشنطن انتهت بأن وعدت اولبرايت عرفات باجراء محادثات اضافية في وقت لاحق في احدى العواصم الاوروبية من اجل محاولة حسم الخلاف. وهذا يعني ان الجمود السياسي مرشح للاستمرار لانه لا يعقل ان تنجح اولبرايت في الوقت الذي فشل فيه كلينتون. وبخلاف الجانب الفلسطيني ساهمت لقاءات واشنطن في تعزيز موقف نتانياهو امام السلطة الفلسطينية والعرب. وفي الحلبة السياسية الاسرائيلية الداخلية اثبت ان السلطة لا يمكنها المراهنة على التدخل الاميركي، وان استمرار العملية السياسة يعني فقط القبول بالسقف الذي تعرضه حكومة اسرائيل. كما خيّب نتانياهو المعارضة الاسرائيلية التي رأت ان تشدده سيؤدي الى الاضرار بعلاقة اسرائيل مع اكبر حليف استراتيجي لها. وتوقع بعض قادة المعارضة ان يتعرض لضغوط من قبل الرئيس كلينتون، الا انه بدلاً من ممارسة هذه الضغوط حرص كلينتون على جعل لقاءاته مع رئيس وزراء اسرائيل مناسبة لاعادة التأكيد على استقرار ومتانة العلاقات المتميزة مع الدولة العبرية. وظهر نتانياهو امام الرأي العام الاسرائيلي في صورة الحريص على المصالح الوطنية. وفعلاً دلّ استطلاع للرأي العام نشرته صحيفة "يديعوت احرونوت" 23/1/1998 بعد لقاء واشنطن على ان نتانياهو يحظى الآن بالتأييد الذي يحظى به ايهود باراك بعد ان كان الاخير يتفوق عليه بعشرين نقطة. كما تراجع المحللون والمراقبون الاسرائيليون الذين رثوا نتانياهو وتوقعوا انهيار حكومته اثر انسحاب حركة "جيشر" من الائتلاف، وبدت حكومة نتانياهو اكثر تماسكاً وانسجاماً وتراجع وزير الدفاع اسحق موردخاي عن تهديده بالانسحاب من الحكومة اذا لم تتم اعادة الانتشار في غضون ثلاثة اشهر، لأنه برر تهديده هذا بالخوف من ان يؤدي تعنّت نتانياهو الى ردّة فعل اميركية غاضبة. اما الآن وبعد لقاء واشنطن اصبح واشنطن موردخاي اكثر المدافعين عن موقف نتانياهو، وليس سراً ان بعض الجهات في السلطة الفلسطينية راهنت على انهيار الحكومة بسبب ازماتها المتلاحقة وأملت في صعود حزب العمل من جديد، في حين تؤكد التقديرات السائدة حالياً ان نتانياهو مرشح للاستمرار في الحكم حتى العام 2000 ان لم يكن حتى العام 2004. وهذا يعني ان سياسة فرض الامر الواقع التي تنتهجها الحكومة الاسرائيلية الحالية مرشحة للاستمرار، فنتانياهو رفض في واشنطن التعهد بأي وقف موقت للاستيطان. وهناك مخطط كشفت عنه الصحف الاسرائيلية يقضي بتحويل عدد كبير من المستوطنات في الضفة الغربية الى مدن مع كل ما يترتب على ذلك من اضافة آلاف الوحدات السكنية في هذه المستوطنات ومصادرة مساحات شاسعة من الاراضي الفلسطينية، الامر الذي سيقلّص مساحة الاراضي التي ستكون مطروحة للتفاوض بشأنها سواء في ما يتعلق باعادة الانتشار او الحل الدائم حتى اذا تولى شخص غير نتانياهو الحكم في اسرائيل. الا ان القيادة الفلسطينية تعلم جيداً ان حدوث مثل هذا المخطط الذي بدأ فعلاً في ظل الجمود السياسي وغياب اي انجاز يجعل من المستحيل اقناع رجل الشارع بشعار "السلام خيار استراتيجي فلسطيني" الذي ترفعه قيادة السلطة. وهذا ما يمهّد الطريق لاستعادة التأييد الجماهيري للعمل المسلح الذي تقوم به "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، كما ان الجمود السياسي يجعل من الصعوبة على السلطة مواجهة هذه الحركات، وهذا ما استوعبته "حماس". وقال الشيخ احمد ياسين في مقابلة مع اسبوعية "الرسالة"، 22/1/98: "ان الطريق المسدود الذي وصلت اليه اوسلو والامل المفقود وعدم وجود اوراق لدى السلطة يجعلها لا تستطيع ان تواجه عمل المقاومة بجدية كما كان في الماضي، فهي لا تستطيع ان تكون عاجزة عن تحقيق انجازات وتريد في نفس الوقت ان تمنع من يحقق هذه الانجازات، وهذا شيء مرفوض لدى الشارع الفلسطيني والعربي والاسلامي. اي ان هناك من سيحاول ملء الفراغ الذي يخلقه الجمود الساسي، علماً ان الآونة الاخيرة شهدت فعلاً محاولات من قبل "حماس" لتنفيذ عمليات تفجير داخل المدن الاسرائيلية، وهذا الامر سيجعل السلطة امام خيارين، فاذا غضّت السلطة الفلسطينية البصر عن مخططات "حماس" وسمحت لها بتنفيذ عمليات التفجير من دون ان تقوم بقمع الحركة، فان هذا يدفع نتانياهو الى القيام بخطوة غير اعتيادية قد تكون باعادة احتلال المدن الفلسطينية او على الاقل القيام بعمليات انتقام داخلها، وهذا يعني انهيار السلطة الفلسطينية. من ناحية ثانية فان اقدام السلطة على ضرب "حماس" في ظل استمرار الوضع الحالي وبموازاة لتعنّت نتانياهو سيمسّ بهيبتها امام الشارع الفلسطيني. اما الحديث عن قيام السلطة بالمبادرة لتفجير الساحة من اجل اجبار نتانياهو للتراجع عن سياساته على غرار تجربة الانفجار الذي تلى افتتاح النفق في ايلول سبتمبر من العام 1996 فانه يحمل الكثير من المخاطر، وقد يؤدي الى فقدان القيادة الفلسطينية السيطرة على الامور بشكل نهائي، فوجود الآلاف من افراد الشرطة الفلسطينية بأسلحتها قد يؤدي الى اندلاع مواجهات دامية مع الجيش الاسرائيلي الذي يؤكد انه استفاد من تجربة احداث النفق. وقال رئيس شعبة التخطيط في الجيش الاسرائيلي الجنرال شلومو يناي انه "في حال تعرض حياة جندي اسرائيلي للخطر فان هذا سيكون سبباً لقتل العشرات من افراد الشرطة الفلسطينية". وهدد جنرالات الجيش الاسرائيلي باستخدام كل الامكانات لاخماد اي مبادرة لتفجيرالاوضاع في الحال، وفي هذه الحال اما ان تنجح قيادة السلطة في ضبط الامور ووقف مظاهر الانفجار من دون تحقيق اي مكسب سياسي، او ان تستمر المواجهات من دون سيطرة الامر الذي قد يؤدي الى هيمنة المعارضة على هذه الاحتجاجات. على رغم صعوبة الخيارات امام السلطة الفلسطينية الا ان بقاء الوضع القائم على ما هو قائم عليه مع غياب فعل فلسطيني او عربي مؤثر سيجعل نتانياهو يتفاخر امام مواطنيه كما فعل قبيل عمليات التفجير الاخيرة عندما قال: "لقد وعدتكم بالسلام الآمن وها أنذا أفي بوعدي". والسلام الآمن بالنسبة لنتانياهو يعني قيام اسرائيل بتنفيذ مخططاتها الاستيطانية في الضفة الغربية وتأقلم العرب - في المقابل - مع سقف التسوية الذي تعرضه حكومتها، الا ان نجاح نتانياهو في سياساته هذه يجب الا يقلق السلطة الفلسطينية فحسب، بل ان الدول العربية يجب ان تتدارك الخطر. فقدرة رئيس وزراء اسرائيل على فرض برنامج حكومته السياسي في الوقت الذي يستتب فيه الوضع الامني لا يجعل متاعب العرب والفلسطينيين تنتهي عند هذا الحد، فاستتباب الاوضاع الامنية داخل الاراضي الفلسطينية واسرائيل سيدفع نتانياهو الى المضي قدماً في مسعاه للتأثير على التوازنات الاقليمية عن طريق مواصلة ترسيخ التحالف الاستراتيجي مع تركيا، وفي الوقت نفسه سيمنح غياب الفعل العربي الفلسطيني نتانياهو متسعاً من الوقت لمعالجة بعض القوى الاقليمية التي ترى اسرائيل انها تشكل تهديداً لها. آن الأوان ان يكف الفلسطينيون عن المراهنة على الموقف الاميركي في "الحياد النسبي" الذي قال ابو مازن ان التدخل الاميركي قد ارتقى اليه. وكتب الصحافي والكاتب الاسرائيلي جدعون سامت في "هآرتس" 19/1/1998 "ان الولاياتالمتحدة كدولة عظمى لا تسارع في التدخل الا عندما ترى الدماء تراق، وما يحدث الآن رغم العمليات الارهابية التي تحدث بين الحين والآخر ليس كافياً بعد لاعتباره اشارة حمراء تدعو الولاياتالمتحدة للتدخل بشكل سريع". لقد استنفدت السلطة اوراقها في رهانها على التدخل الاميركي، واذا كانت هذه الاوراق لم تساهم في تحقيق الهدف الفلسطيني، فعلى السلطة سلوك طريق آخر قبل فوات الأوان.