عندما بلغ الرئيس كلينتون يوم الأربعاء الماضي أن الوفد الإسرائيلي جمع أوراقه استعداداً للانسحاب من مفاوضات "واي بلانتايشن"، اتصل بنتانياهو ليحذره من خطر انهيار مساعي التوفيق، ويحثه على استكمال جهود التسوية. وعلقت الصحف الأميركية على القرار المفاجئ بالقول إنه يمثل لعبة مزدوجة يستفيد منها الوسيط كلينتون ومفتعل الأزمة نتانياهو. فالأول يبحث عن فرصة للتأثير على نتائج انتخابات مجلسي النواب والشيوخ 3-11 خوفاً من فوز الجمهوريين بغالبية تطالب بعزله. والثاني يسجل موقفاً تكتيكياً يرضي به المتشددين الذين يحتاجهم ائتلاف حكومته. ومن المؤكد ان رفض عرفات لتحديد موعد تعديل الميثاق الوطني وتسليم المتهمين، سيكسبه بعض التأييد في مواجهة القوى المعارضة للاقتراح الأميركي الداعي إلى انسحاب إسرائيل من 13 في المئة. كما يبعد عنه تهمة الاستسلام لإرادة الضغوط الأميركية التي تركز على نجاح المفاوضات على حساب الطرف الفلسطيني الضعيف. إضافة إلى هذه المسرحية المتقنة الاخراج، ظهرت يوم الأربعاء الماضي بوادر خلافات عميقة تتعلق بتأجيل تنفيذ التعهدات التي يعتبرها الفريقان المدخل الصحيح للمرحلة النهائية. وتدخل الرئيس كلينتون أكثر من مرة لتبريد الاجواء ومنع انهيار المفاوضات. في الجلسة الأولى بادر نتانياهو إلى طرح الموضوعات المؤجلة بأسلوب هجومي مذكراً بأنه وقّع مع عرفات على مذكرة خطية بحضور المنسق الأميركي دنيس روس يوم 15 كانون الثاني يناير 1997. وأكمل اعتراضاته بلهجة التحدي معدداً بنود الاتفاق الانتقالي كما وردت في المذكرة: أولاً، انهاء عملية تعديل الميثاق الوطني. ثانياً، محاربة الارهاب ومنع العنف بمختلف أشكاله. ثالثاً، تقوية التعاون الإسرائيلي - الفلسطيني المتعلق بالشؤون الأمنية، ومنع الدعاية المعادية القائمة على التحريض والاثارة. رابعاً، محاربة المنظمات الارهابية بشكل فعّال بعد تدمير خلاياها السرية وبنيتها التحتية. خامساً، ترحيل المشتبه بأمرهم حسب المادة الثانية من الاتفاق الأمني، واعتقال الارهابيين ومعاقبتهم. سادساً، يجب أن تنسجم ممارسات الحكومة الفلسطينية مع شروط الاتفاق، وان يُخفض عدد الشرطة إلى النصف. وتوقف نتانياهو عن متابعة القراءة، ثم رمى الأوراق على الأرض بحركة درامية يتقن اداءها، ونظر إلى كلينتون قائلاً: هل تصدق أن السلطة الفلسطينية لم تنفذ أي شرط من هذه الشروط. وإذا كان لديك أدنى شك في ذلك، فالرجاء الاستفسار عن الموضوع من دنيس روس! بعد صمت طويل تسمرت نظرات الحاضرين على عرفات الذي ازداد رجفان شفته السفلى، وهو يطلب من أحد أعضاء الوفد تلاوة النصوص الملزمة للإسرائيليين. وورد النص الأول على النحو التالي: يؤكد الجانب الإسرائيلي التزامه مبادئ التعهدات المتبادلة القاضية بتنفيذ المزيد من عملية إعادة الانتشار، على ان تبدأ في أول أسبوع من شهر آذار مارس 1997. وهنا قاطعه أبو عمار وهو ينظر إلى كلينتون ويقول: تفضل. نحن اليوم في 20 تشرين الأول اكتوبر من عام 1998، والحكومة الإسرائيلية لم تنسحب من شبر واحد... ووقف نتانياهو ليمنع تدخل شارون ويعترض على تعليق عرفات قائلاً: أنت قرأت نصف العبارة فقط. عملية إعادة الانتشار مرتبطة بتنفيذ التعهدات الفلسطينية الأمنية. ورفع الرئيس الأميركي يده، طالباً من مساعد عرفات مواصلة القراءة. وتابع يقول: ثانياً، على إسرائيل ان تطلق سراح المعتقلين في سجونها شرط أن تتولى السلطة الفلسطينية إعادة محاكمتهم. ثالثاً، يجب البت بالمسائل المعلقة بهدف خلق وضع تفاوضي دائم. والمسائل المعلقة هي: الممرات الآمنة، مطار غزة، مرفأ غزة والأموال المجمدة. إثر تفجيرات بئر السبع انضم العاهل الأردني إلى القمة لمساعدة كلينتون على اقناع الوفد الإسرائيلي بضرورة استئناف المفاوضات، علماً بأن الأجهزة الفلسطينية اتهمت الاستخبارات الإسرائيلية بالوقوف وراء منفذ العملية. واستؤنفت المحادثات وسط أجواء متوترة، لم تلبث ان ازدادت تأزماً بعد تغيّب كلينتون عن جلسة يوم الأربعاء. ويبدو ان الوفد الإسرائيلي حرص على استفزاز الوفد الفلسطيني، وعلى احراجه بالادعاء أنه يرفض تعديل الميثاق الوطني خوفاً من "حماس"! ودافع أبو عمار عن موقفه بتذكير الوزيرة أولبرايت أنه قدم مطلع شهر كانون الثاني يناير للرئيس كلينتون رسالة يؤكد فيها ان جميع بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تمثل تهديداً لإسرائيل قد الغيت. وقال إن البنود الملغاة هي 12 بنداً من أصل 33 بنداً، وان هناك 16 بنداً سيصار إلى تعديلها بشكل ينسجم مع التزام السلطة الفلسطينية العيش في سلام إلى جانب دولة إسرائيل. والملاحظ من مراجعة كامل بنود الميثاق ان هناك خمس مواد فقط يريد الاسرائيليون الغاءها، وهي: المادة الأولى التي تنص على: "ان فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني هي وحدة اقليمية لا تتجزأ". المادة التاسعة التي تعتبر ان "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك يمثل استراتيجية بعيدة المدى وليس تكتيكاً مؤقتاً". المادة التاسعة عشرة: التي تعتبر: ان تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947 وقيام اسرائيل، أمران باطلان من أساسهما لمغايرتهما إرادة الشعب الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه، ومناقضته لمبادئ ميثاق الأممالمتحدة وحق تقرير المصير". المادة العشرون التي تعتبر: "كلاً من وعد بلفور وصك الانتداب وما ترتب عليهما باطلاً، وان ادعاء الترابط التاريخي أو الروحي بين اليهود وفلسطين لا يتفق مع حقائق التاريخ، ولا مع مقومات الدولة في مفهومها الصحيح". المادة الواحدة والعشرون التي نصت على: "ان الشعب العربي الفلسطيني، معبراً عن ذاته بالثورة الفلسطينية المسلحة، يرفض كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً... ويرفض كل المشاريع الرامية الى تصفية القضية الفلسطينية أو تدويلها". المادة الثانية والعشرون التي نصت على: "أن الصهيونية حركة سياسية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالامبريالية العالمية، ومعادية لجميع حركات التحرر والتقدم في العالم. وهي حركة عنصرية تعصبية في تكوينها، عدوانية توسعية استيطانية في أهدافها... وفاشية نازية في وسائلها. ولما كان تحرير فلسطين يقضي على الوجود الصهيوني والامبريالية فيها، ويؤدي الى استتباب السلام في الشرق الأوسط، لذلك فإن الشعب الفلسطيني يتطلع الى نصرة جميع أحرار العالم وقوى الخير والسلام والتقدم فيه". وعندما تدخلت اولبرايت لتطالب عرفات بضرورة اجراء التعديلات اللازمة على خمسة بنود هي: 24 و28 و31 و32 و33، أجابها بأن هذه البنود ليست معنية باسرائيل بقدر ما هي معنية بالوضع الفلسطيني. فهي تتحدث عن مبادئ السيادة، وحق تقرير المصير، وحق الشعب الفلسطيني بالاستقلال الناجز، وحقه في رفع علم بلاده. وأكد عرفات للحاضرين ان التعديل الذي أجري على بنود الميثاق تم في شهر نيسان ابريل 1996 بواسطة المجلس الوطني الفلسطيني. يومها عقد عرفات اجتماعاً في غزة لأعضاء المجلس الوطني الفلسطيني. وبعد مناقشات ساخنة صدر بيان رسمي عن المجلس يتضمن بندين ختاميين: الأول أعلن عن الغاء بنود الميثاق التي تتناقض مع الرسائل المتبادلة بين حكومة اسرائيل ومنظمة التحرير في أوسلو... والثاني نص على أن اللجنة القانونية التابعة للمجلس الوطني الفلسطيني ستجتمع من أجل إعادة صياغة الميثاق الوطني. والمعروف ان أبو عمار تعهد لرابين أثناء توقيع اتفاق أوسلو أيلول/ سبتمبر 1993 بالغاء كل بند في الميثاق يتحدث عن إبطال حق اسرائيل في الوجود والبقاء. مادلين اولبرايت تدخلت في هذا الموضوع الشائك لتذكر ياسر عرفات بأن الضمانات الأميركية في اتفاق الخليل كانون الثاني/ يناير 1997 شددت على استكمال عملية تعديل الميثاق الوطني، وقالت انها تطالب بتحديد موعد ثابت لهذا الاجراء. وأضاف نتانياهو على اقتراحها شرطاً جديداً خلاصته انه لا يقبل بأي تعديل تجريه اللجنة التنفيذية، وانما هو يتوقع مصادقة المجلس الوطني أيضاً. ويبدو أن هذه المطالبة احرجت عرفات الذي يعرف جيداً ان الخلافات ستنشب داخل المجلس، وانه من الصعب جداً الحصول على غالبية الأصوات. لذلك استند الى مقررات اتفاق أوسلو التي تتحدث عن الغاء الميثاق القديم، ولكنها لا تطالب بوضع ميثاق بديل. وفي رأي أحد وزراء الحكومة الفلسطينية ان الميثاق الجديد أصبح كاملاً، ولكن عرفات يتردد في اعلانه لئلا يصبح سبباً جديداً في تفجير الخلافات. ويتضمن البند الأول من الميثاق الجديد الاعلان عن انشاء دولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية. السؤال الكبير الذي يرافق أزمة المفاوضات المتعثرة، يتطرق الى المتاعب المتوقعة التي ينتظرها الفلسطينيون في حال وصلوا الى المرحلة النهائية، أي الى مرحلة المباحثات حول القدس واللاجئين والاستيطان والحدود، وقضية المياه وعلاقات الجوار. ويتوقع المراقبون ألا تنتهي هذه المرحلة قبل عام 2010 ما دام تطبيق بنود الاتفاقات الأمنية قد استغرق أكثر من سنتين. ونظراً لتقديرات المتشائمين، فإن كل المؤشرات السياسية تؤكد اصرار نتانياهو على تفشيل المفاوضات، خصوصاً بعد ادخال شارون في شؤون السلام. وأكبر دليل على نيته المبيتة انه استعد للحلبة الإعلامية باستقدام السفير زلمان شوفال وديفيد بار ايلان ودوري غولد. ويتهيأ الثلاثة للحجز في استوديوهات التلفزيون والراديو وقاعات الصحف، في حال فشل القمة بحيث تلقى المسؤولية على ياسر عرفات، الذي ينتظر الانقاذ من رئيس يتطلع الى نتانياهو لإنقاذه... أو من ملك يعتبر أن انهيار المحادثات سيدفع المتشددين الى واجهة الأحداث ويقضي على مرجعية مدريد واتفاق أوسلو! * كاتب وصحافي لبناني.