عندما عرض التلفزيون السوري دراما "الجوارح" كان مصطلح "الفانتازيا" جديد نسبياً داخل الانتاج التلفزيوني في سورية، لكن النجاح الذي حققه هذا العمل فتح المجال لمجموعة من التجارب التي وجدت في الفانتازيا قدرات تعبيرية خصبة، وبقي المخرج نجدت أنزور صاحب الحظ الاوفر في تقديم هذا النوع من الاعمال، فإضافة ل"الجوارح" قدم "تل الرماد" ثم "العوسج" وأخيراً "الموت القادم من الشرق" ويقوم الآن بتصوير دراما جديدة هي "الكواسر"، وخلال مهرجان القاهرة للاذاعة والتلفزيون تم استبعاد "الموت القادم من الشرق" و"القلاع" من المسابقة لعدم وجود تصنيف لهما، ويثير هذا الامر مجموعة من التساؤلات حول الفانتازيا بشكل عام وموقعها في الدراما السورية، فلا يخلو عام من دون تقديم عمل واحد على الاقل ينتمي لهذا اللون ويتسم بطبيعة الانتاج الضخم، وربما تعطي دراسة هذا النموذج صورة عن هذا التكوين المرئي ومدى نجاحه في تقديم ابداع بصري جديد. "العوسج" هو آخر عمل تم عرضه على شاشات التلفزة ويمكن الاستناد اليه في قراءة تجربة الفانتازيا داخل دراما نجدت أنزور، وهو مأخوذ عن قصة ل يشار كمال بعنوان "ميميد الناحل" اعاد صياغتها كنص تلفزيوني غسان نزال، والفانتازيا اساساً تعتمد على مجموعة من الافتراضات في الزمان والمكان والحدث، ولعبة الافتراض التي يرسمها خيال المخرج والكاتب في ان تمتلك سوية من العلاقات المنطقية التي يرسمها الحدث والجغرافية التي يجري عليهما المسلسل ككل، فالفانتازيا كما تقدمها الدراما السورية هي حدث انساني يمتلك مقولة معينة، وبما ان قصة "ميميد الناحل" تنتمي لواقع محدد له علاقة بالمناطق الكردية في تركيا فإن ادخالها في الفانتازيا استوجب افتراض بيئة جديدة لها، ومن جهة اخرى فإن زمن القصة يوحي ببدايات هذا القرن لذلك تم تجريدها في السيناريو من زمنها الاساسي، وبالفعل فإن ما نراه في "العوسج" لا يمت بصلة للعلاقات داخل قصة "ميميد الناحل"، ولكن مجمل هذه الافتراضات اوجدت مجموعة علاقات جديدة داخل الدراما التي ارادت صياغة شخصياتها في قالب فانتازي، فالنص الدرامي قدم البيئة بشكل يخدم المشهدية بالدرجة الاولى، وأخضع كافة الخطوط الدرامية الاخرى للحالة المشهدية التي رسمت جمالياتها بدقة، لكن هذا التشكيل يستدعي التوقف قليلاً حول التكوين البيئي الذي اظهره "العوسج" ضمن مصطلح الفانتازيا: أولاً: اذا نظرنا الى البيئة الاجتماعية المقدمة فإن دراما "العوسج" تظهر عملياً صورة لحالة الاستبداد داخل تجمع سكاني معين، ومن هذا المنظور فإن التركيبة السكانية ضمت "الآغا" ورجالاته ثم باقي الناس الذي يعملون لحسابه، وهذا التكوين هو اقرب للدراما السورية الواقعية التي ظهرت في منتصف السبعينات واستمرت حتى نهاية الثمانينات، مصورة العلاقات في القرى السورية خلال النصف الاول من هذا القرن وما يشوبها من خلل في ادوات الانتاج، وهنا يظهر سؤال مشروع حول موقع الفانتازيا داخل دراما "العوسج"؟ ولماذا لم تصنف كدراما واقعية او اجتماعية؟ ان الخيال الذي استعمله نجدت أنزور في "العوسج" يطال الزمن الغائم، ورغم الوضوح في شكل الاستبداد المنقول لكنه اعاد رسم العلاقات الاجتماعية لتتواكب مع الزمن الافتراضي، فنحن بمواجهة آغا يمارس الطغيان بشكل مباشر لا يتوافق مع الحالة المعتادة في الجغرافية التي يعرفها المشاهد، فهو آغا اقطاع زراعي لكنه يستخدم ادوات مدنية ويمارس سلطته كولاة المدن على بيئة ريفية، فهو يملك قلعته وعساكره التي تذكرنا بإقطاعات العصور الوسطى في مختلف مناطق أوروبا، وهذا التناقض يتكرس حتى في اساليب الحياة المرسومة فنجد صوراً للحصاد كنموذج لحياة السهول، وفي موقع آخر نشاهد عمليات التحطيب الخاصة بحياة الجبال، او يتم اظهار الجوع في مناطق مليئة بالاشجار ومصادر المياه بشكل تستحيل معه عمليات التجويع، وعلى مستوى العلاقات داخل القرية فإننا نشاهد نموذجاً اقرب لتكوين الرعاة الجبليين منه للتجمع الريفي، وهذا الامر يبدو مفهوماً عندما نعرف ان القصة الاساسية "مميد الناحل" لها علاقة بهذا التكوين الخاص بالاكراد، لكن السيناريو اوجد اضافات لا نستطيع ربطها منطقياً في الحالة الاجتماعية كظهور محام داخل القرية، او الشكل القاسي في فرض ارادة الآغا على الناس وكأنه سلطة طارئة لا تمت بصلة الى التكوين البشري داخل القرية. ثانياً: على مستوى السينوغرافيا فإن "العوسج" حمل خيالاً طال كافة الملامح الخاصة بالمشهد، فحاول فرض غرائبية على عين الشاهد التي لا تستطيع البحث داخل هذا التكوين عن شخصية واضحة لهذه السينوغرافيا، فالجنود منقبون وفق حالة تخالف اي منطق او تصور للعسكري الذي يحتاج لقوة البصر، بينما ظهرت النساء بأزياء لا تتوافق مع الحالة الريفية ومتطلبات الثوب الذي يضمن للمرأة سرعة وسهولة الحركة، والآغا يتحرك على مكان اشبه بالقلاع بينما تبدو منازل السكان بعيدة تماماً عما اعتدناه من طراز معماري محيط بالقلاع، وهذا الخيال في التكوين السينوغرافي يأتي ليخدم المشهدية مخالفاً التصور الدرامي العام للعمل، فالاغراق في الافتراض يتجاوز الادوات لتصبح حالة غامضة وغير مفهومة ضمن العلاقات الانسانية التي يصورها "العوسج". ثالثاً: مشكلة "العوسج" وربما معظم اعمال الفانتازيا الاخرى هي حجم الواقعية والمعاصرة التي يقدمها، حيث لم تستطع كافة الافتراضات على مستوى الزمن والجغرافيا والسينوغرافيا الخروج عن مألوف الصراع الاعتيادي، ومن جهة اخرى بقي المشهد وفق طاقة بصرية لا تحمل خيالاً يطال نوع الشخصيات، التي بقيت في اطار محدد ينقل بشكل مباشر طبيعة الاستبداد الذي تمارسه السلطة في اي زمان، ولكي تظهر المفارقة في اطلاق مصطلح فانتازيا على هذا النوع يمكننا مقارنته بما قدمه عبداللطيف عبدالحميد في فيلمه "صعود المطر"، فهو جعل السماء تمطر بطيخاً وأخرج رجلاً من القبر وهو يضرب على الآلة الكاتبة وحوله ثلاث نساء يرقصن، وكانت هذه التهويمات او الاحلام المتكررة عبر الفيلم توضح شخصية البطل الذي يعمل روائي، وكافة مشاهد الفانتازيا والتي تحتل اكثر من نصف الفيلم لم تحمل اي تصنيف محدد رغم ان الفيلم يحمل هماً معاصراً، بينما في "العوسج" فكانت السينوغرافيا هي الوحيدة التي تعبر عن خيال معين دون ان يحكمها قانون خاص بها. اذا كانت سمة العمل الفانتازي هو الافتراض والاستخدام الاقصى للخيال فهل هذا الامر يمكن ان يسير دون قاعدة محددة؟ ان جواب هذا السؤال يتوقف على تعريفنا للفانتازيا ولكننا في "العوسج" نشاهد منذ الحلقة الاولى قاعدة واضحة هي حالة الاستبداد، والعمل ككل مقيد بالحالة الانسانية التي ارادها المخرج رغم كافة افتراضاته، وبالتالي فإن استخدامه للخيال يبقى ضمن التكوينات الاجتماعية التي صاغتها قاعدة الاستبداد التي اراد ايضاحها، واعادة رسم البيئة بشكل مشوش سواء على مستوى الجغرافية او العلاقات الاجتماعية والشخصيات لا يمكن فهمه ضمن مصطلح الفانتازيا، وفي "العوسج" تحديداً يمكن ادراك هذا الامر في صيغة جماليات المشهد، فهو اتى مجموعة من المشاهد المرسومة بدقة لكنها تحمل كماً من التداخلات الغامضة عندما تم جمعها داخل عمل واحد.