عرض التلفزيون السوري مؤخراً دراما "هوى بحري" عن قصة لقمر الزمن علوش واخراج باسل الخطيب، وتجري احداث العمل في قرية ساحلية بنيت خصيصاً من اجل عمليات تصويره وظهرت ضمن طراز غريب اشبه بالمنتجعات التونسية، ويرجعنا "هوى بحري" لوقائع مسلسل آخر انجز قبل عدة سنوات هو "الدغري" عن قصة لعزيز نيسين، ورغم اختلاف الاجواء ما بين المسلسلين الا انهما قدما تكويناً فانتازياً على مستوى الحدث والشخصيات، لكن المقاربة بينهما تتجاوز البناء الدرامي خصوصاً ان "الدغري" قدم كوميدياً داخل تكوين اجتماعي وسياسي، بينما يدخلنا "هوى بحري" في مجموعة علاقات انسانية تحمل احياناً لمسة مضحكة، وبشكل عام فإن ما يجمع العملين هو طريقة التعامل مع الزمن والجغرافية وتأثيرهما على الحدث والشخصيات. قصة "هوى بحري" تبدأ فعلياً بعودة "الكابتن" وهو الشخصية الرئيسية والتي تظهر كنافذة للسكان على العالم، فهذه القرية ارادها الكاتب منسية تماماً ولا تملك اتصالاً مع محيطها العام حيث يبدو سكانها وكأنهم خارج التاريخ، واذا كانت عودة الكابتن تشكل بداية الاحداث الا ان الحلقة الاولى اظهرت مشهداً لانتحار عاشق من القرية، وهو ما جعل السكان يخافون الحب ويبتعدون عن الشكل الطبيعي للحياة الانسانية، لكن الكابتن نفسه يقع في العشق فور عودته فيتخلى الناس عنه ويعتبرونه ميتاً، لكن حبه الذي جوبه بالرفض من قبل الفتاة التي احبها يعيد تعلق الناس به ويسعون الى التوفيق بينهما، وتسير كافة الاحداث داخل محاولات اصدقائه لجذب انتباه حبيبته، وضمن هذا التكوين تصور القصة بقالب فانتازي عمليات التبدل التي تطرأ على العلاقات داخل القرية نتيجة تسرب الحب الى حياتها، وتنقل صراع الشخصيات لاستعادة الجانب المشرق في الدنيا، فهي كانت تعيش على تقويم خاص ينظمه عودة الكابتن من رحلاته البحرية بما يحمله من قصص مشوقة، ولكنها بعد ذلك بدأت تشكل ايقاعها الخاص الذي يظهر في العواطف التي تبرز من الشخصيات، وذكرياتها او احباطاتها الناجمة عن الموقف العام من المرأة والحب وتجريدها للحياة من اجمل العواطف، وفي المقابل لم تكن عودة الكابتن تحمل فرحاً عاماً لنساء القرية فهو يسلخ الرجال عن عائلاتهم، ويغير من الهدوء المخيم على الحياة اليومية فيشعرهن بفوضى لم يعتدن عليها. هذا العمل الذي قدم على خلفية لجغرافية بحرية حيث استخدم المخرج البحر ليرسم مشهديته، لكنه عملياً لا يوحي بأجواء البحر فتم ابتداع كافة المهن باستثناء الصيادين، ولا نشهد عبر معظم حلقاته اي تأثير خاص لهذه الجغرافية في حياة الناس، حيث اكتفى المخرج بسينوغرافيا بحرية منفصلة تماماً عن مسار الاحداث، وربما تعمد هذا الامر لإبراز شخصية الكابتن التي تنتمي بمفردها لحياة البحر، واذا حاولنا استعادة التعامل الجغرافي لمسلسل "الدغري" نجد تكويناً مشابهاً، حيث تجري احداثه في قرية منسية تظهر الحلقات عجز سكانها عن الاتصال بمحيطهم وبخاصة العاصمة، وكانت معظم الشخصيات الرئيسية خارج اطار العمل الزراعي، لكن المختلف في "الدغري" هو طبيعة العلاقات بين الناس التي رسمها الكاتب متأثرة بكاملها بحياة الريف، سواء من حيث البساطة او عفوية التفكير او حتى في مواقفها من الاحداث التي تعيشها، بينما قدم "هوى بحري" كافة الشخصيات والعلاقات وفق الاطار الافتراضي الفانتازي الذي يسير العمل، وفي منحى آخر يقارب العملان في الايحاء الزمني الذي يستنتجه المشاهد من طرازات السيارات او الملابس والاعلام، فهذه السينوغرافيا تطرح عقد الخمسينات بقوة لكننا في "هوى بحري" لا نلمس تأثير الزمن في الحدث، فهو لا يدخل سوى في واقعة واحدة متعلقة بشكل الانتخابات النيابية ويبدو ان هذه الحيادية تجاه الزمن لها ما يبررها، فالقصة المقدمة اساساً لا تحتل زمناً معيناً بل هي استعراض حياتي لمجموعة من الافكار داخل العلاقات الانسانية، وفي دراما "الدغري" هناك لون مشابه حيث يظهر الزمن عبر السينوغرافيا لكنه ايضاً مجرد ولا يعطي اي موقف. اذا حاولنا استعراض النقاط السابقة على شكل العملين نجد ان الفانتازيا تظهر بشكل واضح في الشخصية المبتكرة، ففي "هوى بحري" هناك الكابتن والذي لا نملك اي خلفية عنه فهو يطرح نفسه بقوة ومن دون ماض مؤثر على المشاهد، وهذه الشخصية التي جسدها الفنان أيمن زيدان تتحكم بسير الاحداث دون ارادتها، لأن السكان يفترضون ما يريده الكابتن ويقومون به ثم يطرحونه عليه وكأنه امر واقع، وفي "الدغري" الذي يحمل اسم الشخصية الرئيسة وجسدها الفنان دريد لحام، نقف امام حالة مشابهة فلا نملك معلومات عن كيفية ظهور "الدغري" ويتعمد المخرج اعلامنا بأنه مجهول الماضي، وهو يتحكم بالاحداث عبر عشوائية الشخصيات الاخرى وسذاجتها وأهامها التي تنسجها عن "الدغري"، لكن "هوى بحري" يسير في الفانتازيا الى ابعد من ذلك فينسج كافة الشخصيات بشكل افتراضي خاص. وأما من ناحية الزمن والجغرافية فكلاهما يقدما ايحاءات معينة عنهما دون ان يجعلا هذين العنصرين يتدخلان مباشرة في الحدث، وبينما استطاع "الدغري" رغم حيادية الزمن والجغرافية خلق منطقية داخلية معهم عبر الصور الاجتماعية، فإن "هوى بحري" رفع من اشكال الافتراض ورسم مشاهد كثيرة لا تنتمي للبيئة او للزمن الخاص بالعمل، ويبقى ان "هوى بحري" هو عمل يحمل ايقاعاً بطيئاً ومشاهد مطولة تذكرنا بولع نجدت أنزور في استخدام الكاميرا لتوظيف الطبيعة، لكن مشهديته لم تستطع ان تربط هذه المشهدية مع التكوين العام للعمل