خاطبت الحكومة السودانية من خلال رسائل تدعو الى المشاركة في مناقشة مشروع قانون تنظيم التوالي السياسي لعام 1998، عدداً من الأشخاص المعارضين والمتضررين من النظام يعيشون خارج السودان. وكانت الاستجابة لهذه الدعوة ضعيفة، إذ قرر أغلب المخاطبين عدم الرد أو تجاهل الدعوة أصلاً، باعتبار أن عملية الدستور ثم القوانين المترتبة عنه باطلة غير شرعية، وبالتالي لا تستحق المناقشة. كما أن خطوات إجازة قانون التوالي كانت ذهبت بعيداً حين بُعثت الدعوات. لكن القضية هي أبعد من هذه الشكليات، فالدعوة في جوهرها واحدة من محاولات النظام للتواصل مع الآخر المعارض والمختلف بطريقة أكثر جرأة هذه المرة وأقل تزمتاً. فالنظام يبحث عن وفاق ولكن ضمن شروطه أو بقبول الأمر الواقع مما يعني وفاق الإذعان. على رغم كل هذه الملابسات، فقد غلب عليّ أحساس - قد يكون خاطئاً - هو أن النظام يريد حقيقة أن يكسر حلقة الأزمة التي تحيط به وأنه قد يفقد كل شيء لو استمرت الأوضاع في الاتجاه الحالي المؤدي حتماً الى كارثة شاملة. وأن النظام يحتاج الى تعاون الذين اضطهدهم واستبعدهم وأنكر وجودهم وحقوقهم، وقد تيقن الآن أن المشكلة أكبر من طاقاته وطموحاته وأن الواقع يختلف عن الأحلام والمثل والايديولوجيات. ففي مثل هذه المواقف لا بد من حسن التقدير المتجرد من المصالح الذاتية، حزبية كانت أم شخصية. ومن هنا جاءت فكرة الدعوة الى ما سمي "بالمساومة التاريخية" المتمثلة في عقد مؤتمر قومي تشترك فيه من دون استثناء القوى السياسية التي تسعى لايجاد حل للمشكلة السودانية المستعصية والمزمنة، وكأنها دعوة "لمؤتمر الأزمة السودانية" إن صح التعبير. انطلقت الفكرة من مركز الدراسات السودانية في القاهرة ولكن، أحاطتها تساؤلات وتخوفات وتشككات عدة، مما يستوجب فتح حوار جاد وموضوعي وعميق بعيداً عن الانفعالات ورمي الاتهامات والتجريح. تبدأ التساؤلات وايضاً التخوفات من القول: هل التوقيت مناسب، وهل النظام صادق في توجهه نحو التعددية الحزبية وقبول الآخر أم سيدخل في مناورة جديدة تجعل المبادرة تصب في مصير المبادرات السابقة نفسه؟ وهل حدثت تغييرات حقيقية في تركيبة نظام الجبهة وفي سياساته الداخلية والخارجية أيضاً تستوجب مواقف جديدة من قبل المعارضين؟ في البداية لا بد من ملاحظة مهمة وهي ان نظام الجبهة في السودان هو ظاهرة سياسية اجتماعية وليس ظاهرة طبيعية، وبالتالي هو عرضة مثل كل الظواهر للتحول والتبدل والضعف والتآكل والتراجع وايضاً للنمو والتطور. ولكن بعض المعارضين يتحدث "عن الجبهة القومية الاسلامية" وكأنها ظاهرة ثابتة وسرمدية لها قدرة لا متناهية على الاحتفاظ بخصائصها المختلفة. وقد تساعدنا هذه الملاحظة في فهم مواقف نظام الانقاذ في السنوات الأخيرة، إذ يمكن القول بأن النظام الإسلاموي في السودان تنازل عن مشروعه الحضاري أو أجبره الواقع على التراجع، و نستطيع ببساطة أن نختبر الوعود التي أعلنها البيان الأول والشعارات التي ملأت السودان. كما أن العنف الذي صاحب الانقلاب كان بسبب إصرار الحاكمين وأعوانهم تطبيق برامجهم بالإكراه والعسف. وعلى المستوى الخارجي فقد إدعى السودان إمكان إشعال الثورة الاسلامية في كل الساحة العربية - الاسلامية ولذلك منح الجنسية السودانية لأي مسلم واحتضن المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي الذي اعتبر أممية أصولية إسلامية، ولكن، انتهت مساندة الثورة الاسلامية والثوار العالميين بإبعاد اسامة بن لادن، وتسليم كارلوس لفرنسا، وتجميد المؤتمر الشعبي إذ اصبح أمينه رئيساً للمجلس الوطني ونائبه والياً في كردفان. لقد تغيرت الانقاذ حتى في لغتها وخطابها وإعلامها، فهذا تحول واضح سببه العجز والإنهاك وتفاقم المشكلات. لم يكن من الممكن ان تمر هذه التراجعات من دون تشققات واختلافات وخلافات ضمن الحركة الاسلاموية السودانية. فصرنا نسمع عن متشددين وصقور أو دبابين، يُلوّح بأسمائهم حين يريد البعض فرض سياسات معينة. وحين بدأ المجلس الوطني مناقشة قانون الأحزاب والعودة الى التعددية حاول البعض حشد طلاب لمهاجمة المجلس وارهاب الاعضاء بقصد منعهم من تأييد عودة الأحزاب أو تبني التعددية. ولكن لم يستطع المتشددون فرض آرائهم ولم نسمع عنهم في المراحل التالية حتى إجازة الدستور والقوانين المصاحبة له، ويبدو من هذه التطورات إنه لا توجد قوة حقيقية لما يسمى بالدبابين أو المتشددين، بل هناك تهويش لفظي فقط والتهديد بأشباح لا وجود لها في ميزان القوى السياسي. وفي الوقت نفسه نلاحظ أن الأصوات الناقدة والمنشقة عن التيار الذي يمثله الشيخ الترابي، الحاكم الفعلي للسودان، هي الأعلى والأكثر انتشاراً في الفترة الأخيرة. ووصلت هذه الأصوات الى مدى معارض أبعد من نقد قصور سياسات الحكومة بل نقد الأسس والشخصيات التي تقوم عليها أيديولوجية النظام الاسلاموي. كان للأزمة الاقتصادية أثرها الواضح في تراجع النظام عن عدوانيته وادعاءاته، إذ أنه فشل في تحقيق أي نمو اقتصادي بل وصلت المجاعة الى غرب وشرق السودان على رغم أنها أخف وطأة من جنوب السودان. واستمر تدهور قيمة العملة السودانية حتى وصل الدولار الأميركي الى أكثر من الفين وثلاثمئة جنيه سوداني. وأصبح من المعتاد عدم صرف رواتب الموظفين والعمال لشهور طويلة لعدم توافر السيولة، وعلى رغم ان "بنك السودان" لم يتوقف عن طبع العملة بلا غطاء. وتوقفت المصانع بسبب نقص الموارد المالية وقطع الغيار والمواد الخام. وفي قطاع الزراعة عجزت الحكومة عن توفير مدخلات الانتاج من بذور وأسمدة ومبيدات، وكثيراً ما ضاعت مواسم زراعية بسبب العجز. كما ان المزارعين وقعوا في ديون طائلة ما أدى إلى سجن بعضهم بسبب قضايا البنك الزراعي، وكانت حكومة الخرطوم تعول كثيراً على استخراج البترول، ولكن، طال الوقت وقد ينتج في وقت تنعدم فيه جدوى انتاج البترول بسبب الانخفاض المحتمل لأسعاره مع استمرار كلفته العالية. وكان من أهم مبررات إنقلاب "الجبهة الاسلامية" ان الفوضى عمّت السودان، وأن الحرب تهدد البلاد، لذلك رفعت شعار بسط الأمن ووقف الحرب. هذه الصورة القاتمة للتدهور المريع الذي يعيشه السودان جعلت النظام السوداني لا يمانع في محاولة الخروج من المأزق لو استطاع تقليل خسائره مقارنة بوضعه في حال حدوث تغيير عنيف عن طريق الانتفاضة الشعبية أو الانقلاب العسكري. يضاف الى ذلك، أن بعض قيادات "الجبهة الاسلامية" ومنها الشيخ الترابي، يعتقد بأنه لو أجريت انتخابات حرة في السودان فسوف يكسب الإسلامويون هذه الانتخابات من دون صعوبة. ويقوم هذا الافتراض على أن النظام استطاع خلال السنوات التسع الماضية ترتيب الأمور جيداً بحيث تؤدي هذه الترتيبات لا محالة الى تغلب الاسلامويين ممثلين في حزب المؤتمر الوطني الذي سيعلن رسمياً في كانون الثاني يناير المقبل. فالاسلاميون يرون أن سيطرتهم على الاقتصاد والتعليم والإعلام خلال الفترة الماضية مكّنهم من كسب قطاعات كبيرة من الشعب، وفي الوقت نفسه، فإن بعد الأحزاب عن السياسة وعن الوطن عموماً سيضر بدورها في المستقبل القريب. هذا هو الوضع بالنسبة الى الحكومة و"الجبهة الاسلامية القومية" وحلفائها في الانقاذ، أما بالنسبة الى المعسكر الآخر، وهو "التجمع الوطني الديموقراطي" الذي يقود المعارضة ضد نظام الجبهة، فهو في وضع ليس أحسن كثيراً رغم اختلاف المهام، أي أن المعارضة دائماً أصعب من الحكم في عملها من أجل تغيير سلطة قائمة. وعلى رغم أن التجمع أنجز مهمات مقدَّرة في الخارج، مثل كشف ممارسات النظام في انتهاكات حقوق الانسان وفي الحرب الأهلية، كذلك ساعد في إحكام عزلة النظام الإقليمية والدولية، إلا أن العمل في الداخل وهو المؤثر والذي يمكن أن يشعل الانتفاضة الشعبية التي تطيح بالدكتاتوريات في السودان، لم يكن كما هو المتوقع. ومع مرور الوقت تركز العمل المعارض في الخارج وأهمل الداخل تماماً. وأحس "التجمع الوطني" بذلك فأصدر: "ورقة مراجعة وتقديم أداء التجمع في الخارج - الفترة من حزيران يونيو 95 حتى حزيران يونيو 1998". وتتساءل في البداية: "هل ما أنجزه التجمع في الخارج يرقى الى المستوى المطلوب والذي يتحدد معياره في تكامل العمل المعارض الخارجي مع العمل المعارض الداخلي بهدف الإطاحة بالنظام وإرساء البديل المتفق عليه؟". وهذا يقود الى سؤال آخر: "هل يستطيع "التجمع" في الخارج - حالياً - أن يعي حقيقة أن الظروف الموضوعية، سواء من الناحية السياسية أو العسكرية أو من ناحية الموقف الدولي ظلت ملائمة. ولكن بالمقابل ظل إيقاع "التجمع" منفصماً عن هذا الجو الملائم مما يتطلب المراجعة والتقويم؟". وهذا يعني أن التجمع اضاع فرصة تفعيل نفسه ضمن ظروف أفضل. وما زال التفعيل مطلوباً ولكن تغيرت الظروف نحو الأسوأ مما يتطلب مضاعفة الجهد. ومن أكبر المشكلات التي يواجهها "التجمع" هي تحريك وتنشيط العمل الداخلي. ففي البداية - كما تقول الوثيقة - اعتبر الخارج فرعاً للداخل، وتشكلت لجنة تنسيق عمل فروع الخارج، كانت القيادات لا تزال في الداخل. ولكن حين خرجت أعداد من القيادات، طرح السؤال: هل القيادة في الداخل أم الخارج؟ ولعدم وجود تجمع فاعل في الداخل مال البعض الى اعتبار أن القيادة في الخارج، وهذا هو سبب تشكيل لجنة التنسيق العليا. وأصبح الحديث الآن عن التكامل بين الداخل والخارج. وتشهد الساحة السياسية هذه الأيام نقاشاً ساخناً بين عناصر التجمع الوطني حول هيكلة التجمع وتعديل ميثاق أسمرا. وعطّلت هذه الاختلافات - التي يصر قادة التجمع بأنها صحية - عمل "التجمع". والدليل هوالتأجيل المستمر لعقد مؤتمر "التجمع". ويبدو أن ذلك الاجتماع لن ينعقد خلال هذا العام. وعلى رغم أن كثيرين طالبوا بتفعيل "التجمع" منذ فترة طويلة، إلا أن النقاش الحالي مشحون بحسابات وترتيبات تقوي التنافس وتزيد التناقضات بين الفصائل المعارضة التي يضمها "التجمع". لذلك كانت الاختلافات حادة رغم وجود نقاط إلتقاء مشتركة كثيرة. واضطر "التجمع" الى تكوين "لجنة المقاربة" هدفها أن تحتوي الخلافات بين قيادات "التجمع" وبالذات بين حزب الأمة والحزب الاتحادي الديموقراطي. وهذه طاقة مهدرة كان يمكن ان توجه نحو عمل مفيد "للتجمع" بالذات في الداخل. ومن الملاحظ أن استراتيجية "التجمع" تجاه النظام الحاكم ما زالت مضطربة، على رغم الحديث عن الإقتلاع من الجذور. وكان من الطبيعي ان تتعرض فكرة المساومة التاريخية لهجوم من صقور "التجمع" وأن يرفعوا "لاءات القاهرة" ويرفضوا أي لقاء مهما كانت، أهدافه يجمعهم مع أعضاء "الجبهة الاسلامية" عناصر النظام. ولكن هناك اسئلة تقلقني كثيراً وهي متطابقة: هل يمكن أن تجلس المعارضة مع الحكومة في المؤتمر الدستوري أم ستعزل الجبهة ولن يسمح لها بالمشاركة؟ هل اذا تمت توسعة في المشاركة في "الايغاد" سيجلس "التجمع" مع ممثلي الحكومة، أم ما المقصود بتوسيع "الايغاد"؟ يطالب "التجمع" بحل شامل لمشاكل السودان وليس الجنوب فقط، فهل في هذه الحالة سيلتقي "التجمعيون" مع الحكومة مثلما فعلت الحركة الشعبية أم كيف سيكون موقفهم؟ ثم ما تبرير مشاركة الحركة الشعبية نفسها في لقاءات لم تنقطع مع النظام؟ وهل خصوصية الحركة أو مشكلة الجنوب تسمح بخرق مبدأ مقاطعة النظام وعدم اعطائه الشرعية بالجلوس معه في أي مؤتمر أو لقاء؟ قدمت المعارضة الداخلية مذكرة الى مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة تطالب برعاية المنظمة الدولية للمؤتمر الدستوري، وذلك لأن "النظام يفتقد الى الصدقية في كل دعاويه ودائماً ما يكذب ويعطي وعوداً خاوية، لذلك فإن اعتماد الوساطة عبر المؤتمر السنوي ضرورية ونحن نثق في الأممالمتحدة على أساس انها جسم موثوق به قادر على رعاية". وواضح أن المعارضة لا ترفض الحوار لكنها لا تثق في النظام. وهذا فرق كبير يعني أنه لو وجدت الضمانات التي توصّل الى الإلتزام الصادق والصارم بنتائج المؤتمر الدستوري فهي لا تمانع من الحوار. وفي الختام يمكن القول إن الهدف من المساومة التاريخية هو التعجيل بوقف تدهور احوال السودان والتي ستقود حتماً الى التقسيم والمجاعة واتساع الحرب الأهلية، وذلك بسبب العجز الكامل الذي تعيشه القوى السياسية السودانية حكومة ومعارضة. نتيجة لهذه الأوضاع السياسية المتدهورة، والإنهاك المتبادل الذي يعيشه كل من المعارضة والحكومة، أصبحنا أمام صراع العاجزين بينما يعاني المواطنون السودانيون ويتآكل الوطن حدوداً ووجوداً وسلطة. دعت المساومة التاريخية الى الاتفاق حول التعددية والتنمية والسلام والوحدة الوطنية. وتطالب قبل بداية أي حوار بمحاسبة المسؤولين عن التعذيب والفساد خلال الفترة السابقة. ثم تدعو الى عقد مؤتمر قومي في الخرطوم أو القاهرة مطلع العام المقبل، يناقش: ترتيبات العودة إلى النظام الديموقراطي بالصورة التي تتجنب أخطاء الماضي، الوقف الفوري للحرب الأهلية، الاتفاق حول برنامج اقتصادي إسعافي لمواجهة تفشي المجاعة والفقر، وانتهاج سياسة خارجية متوازنة تراعي المصالح السودانية. ويسبق هذا المؤتمر: إيقاف العمل بالدستور الحالي لأنه ليس قومياً ولا ديموقراطياً، والشروع في استعادة قومية جهاز الدولة ضمان سيادة القانون عوضاً عن تعسف أجهزة الأمن المتعددة، قومية الإعلام. هذا مقترح مطروح للنقاش والحوار بطريقة موضوعية وعقلانية تضع مصلحة الوطن فوق كل شيء.وهذا لا يعني عفا الله عما سلف ولكن يمكن إقتفاء نموذج جنوب افريقيا بتشكيل "لجنة الحقيقة والمصالحة"! * رئيس "مركز الدراسات السودانية" - القاهرة