حين مارس نظام الانقاذ جملة من الاخطاء الجذرية طوال فترة 89 - 1996 كنت من أشد الناس مواجهة له، حتى أني وصفت حالته مقارنة بما كان عليه عهد الخليفة عبدالله التعايشي في السودان 1885 - 1898 حين شن حملاته العسكرية الجهادية على دول الجوار مصر واثيوبيا تيمناً بمشروعه الحضاري الاسلامي المهدوي وطحن البلاد بالحروب الأهلية وانهكها بمجاعة سنة 1906 المشهورة، وكان يصف كل ذلك بأنه ابتلاء إلهي، وغابت عنه معاني التهلكة. وجاء موقفي واضحاً في مقالات نشرتها "الحياة" من 27/12/1996 الى 1/2/1997. ثم بدأ نظام الانقاذ بالتراجع منذ مطلع 1997 بما عبرت عنه بپثغرة في الحائط المسدود - "الحياة" - من 10/10/97 الى 12/10/1997، وعنيت بها ان الشعب السوداني حصل حتى الآن على الثلث من حقوقه الديموقراطية، وذلك فيما يختص بحرية التعبير على مستوى الصحافة والندوات واللقاءات التلفزيونية، فهناك حالة من مقدمات البروسترويكا في الداخل تجاوزت سقف كتابات المعارضين في الخارج، لكن بقي الثلثان، وهما حرية التنظيم وحرية الحركة، وهما آتيان - لا ريب في ذلك - ولكن بالكيفية الملتبسة نفسها التي أتت بها حرية التعبير، اذ يظل المرسوم الرئاسي الثاني الذي يمنع حرية التنظيم والتعبير والحركة قائماً لكن مع وقف التنفيذ، فموقف النظام من ممارسة هذه الحريات هو موقف التغاضي السياسي وليس الاعتراف الدستوري، ولهذا لا زلنا في طور الثغرة. غير ان ثمة ضغوط عدة تدفع بالنظام الآن لتوسيع هذه الثغرة والتعاطي دستورياً مع حرية التنظيم والحركة، فالذين بدأوا بحوارات مع النظام من الداخل ومنذ منتصف عام 1997 وجدوا أنفسهم ضمن قليل منحهم إياه النظام ويتمثل بتكوين لجنتين، احداهما لجنة الحوار الوطني الفكري وثانيتهما لجنة الدستور، وأسند للجنتين مهمات مصيرية تتجاوز سقفهما الشعبي والدستوري. فاللجنتان تفتقران للشرعية الشعبية والدستورية، اذ عُينتا من طرف واحد هو النظام، واسند الى لجنة الحوار الفكري مناقشة نظام وشكل الحكم الراهن وتقييم سلبياته المكدسة منذ عام 1989 والتوصية بالحلول العاجلة والآجلة، كما أسند الى لجنة الدستور التوصية بالمستقبل الدستوري للسودان. إفتقار اللجنتين للشرعيتين. مع افتقار اللجنتين لمشروعية التمثيل الشعبي التي تخولهما حق البت في هذه القضايا المصيرية، فإن نظام الانقاذ الذي شكلهما بالتعيين، حرمهما من الاعتراف الدستوري بهما وبتوصياتهما، فما يطرحانه هو مجرد توصيات مآلها منظمات النظام نفسه المجلس الوطني والحزب الحاكم المؤتمر الوطني. هذا القليل الذي منحه النظام للجنتين يتعارض مع حق ومع طموحات الرأي السوداني العام غير المشارك للنظام في الداخل، ويأتي هذا القليل بأدنى من مستوى الضغوط المارسة على النظام شعبياً وكذلك من داخله العقلاء في اطار المأزق الذي يعيشه السودان، ولهذا فقدت اللجنتان فعاليتهما ومصداقيتهما. فالمهمات المسندة للجنتين تتطلب أولاً مبادرة من النظام، لإعادة صياغة الحياة السياسية بحيث تستطيع القوى غير المشاركة والتي اتخذت طريقها للحوار مع النظام من الداخل، ان تؤهل نفسها تنظيمياً وسياسياً وفي اطار اكتسابها للمشروعية الشعبية التي تعطيها حق الحوار مع النظام وباتجاه توسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار، سواء كان ذلك لوضع الدستور المستقبلي أو معالجة مشكلات السودان الراهنة. إلغاء المرسوم الثاني طرحنا في اعلان دمشق الصادر بتاريخ 17/5/1997، ضرورة تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة داخل السودان ورفضنا العنف المسلح على مستوى المعارضة، وارهاب الدولة على مستوى النظام، لكننا أقررنا بخطوط حمر يصعب تجاوزها حين التعاطي مع النظام القائم أو الشعب السوداني. فالنظام لا يقر بالتعددية المطلقة رجوعاً الى ما كان عليه الوضع قبل عام 1989، كما ان الشعب لا يقبل باستمرار النظام في ممارسة آحاديته، ولا يقبل بانفراج سياسي وهمي يقتصر على حرية التعبير التي يخشى ان تكون متنفساً وقتياً مثلها مثل شعار ضرورة تماسك الجبهة الداخلية في ظل الاخطار، ثم لا يكون شأنهم الا كشأن ستالين الذي استخدم هذا الشعار ضد الغزو النازي في الحرب العالمية الثانية ثم انقلب على الشعب وعلى جنرالاته الذين تصدوا للغزو. فمعالجة تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة تتطلب توازنات دقيقة بين طموحات الشعب في الداخل، ورفضه لآحادية النظام، وبين رفض النظام للتعددية السياسية المطلقة، وميله المفروض عليه تجاه الانفراج السياسي بذات الوقت، وتصاعد ضغوط العقلاء من داخله عليه بأكثر من تأثير المعارضة الخارجية، وكل ذلك في اطار مأزق سوداني شامل داخلياً وخارجياً. هذا الوضع جعل من طرح الجبهة الوطنية المتحدة يتخذ شكل التعددية الثنائية وليس المطلقة، على أن: أ - تشكل هذه الجبهة تجسيداً تنظيمياً لمختلف قوى واتجاهات الرأي السوداني غير المشارك للنظام. ب - تمارس الجبهة الوطنية المتحدة، بصفتها جبهة وبصفتها متحدة تعدديتها في داخلها لتستوعب كل ألوان الطيف السياسي، وبما يماثل تكوين جبهة الانقاذ الجنوبية المتحدة التي تنضوي في ظلها العديد من فصائل الجنوب الموقعة باسمائها وتنظيماتها على اتفاق السلام مع حكومة الانقاذ في نيسان ابريل 1997. فالمطلوب من الجبهة الوطنية المتحدة ان تدخل في علاقة ثنائية مع نظام الانقاذ بما لديه من مؤسسات سياسية ودستورية، وان تدخل في علاقة تعددية مطلقة مع تنظيماتها من داخلها. معبر علاقتها الثنائية مع النظام يتم توسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار. وعبر علاقتها التعددية من داخلها تكتسب مشروعية التمثيل الوطني لكل القوى غير المشاركة للنظام. يتطلب هذا الوضع الآن الغاء المرسوم الثاني لا وقف تنفيذه فقط. فالمحاورون للنظام الآن يفتقرون للشرعية الشعبية، سواء، كانوا من جانب مبادرة الهندي أو "هيئة الحوار الشعبي" مثلهم تماماً مثل لجنة الحوار ولجنة الدستور. فالكل منهم يفتقر للمشروعية الشعبية من ناحية ولاقرار النظام به وبشرعيته الدستورية من ناحية اخرى. فأي مبادر أو محاور لا يستطيع تمثيل الشعب في القضايا المصيرية الحساسة ما لم يكتسب المشروعية الشعبية أولاً، ولا يمكن اكتساب المشروعية الشعبية من دون الغاء المرسوم الثاني. وقتها فقط يمكن لكل أصحاب المبادرات من الخيرين في الداخل والخارج، ومن بينهم الأخوة في هيئة الحوار الشعبي - والذي أدرك صدقية الكثير منهم - ان يعمدوا لتشكيل لجنة تحضيرية تتسع لكل فعاليات وقيادات القوى غير المشاركة للنظام - التي لا زال بعضها متشككاً في مساحات ما يمضي اليه النظام - بهدف تأسيس الجبهة الوطنية المتحدة واكتساب مشروعيتها الشعبية كمحاور للنظام، ويهدف توسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار. كذلك يتطلب حوار هذه الجبهة الوطنية المتحدة مع النظام ومن بعد الغاء المرسوم الثاني وتشكيلها بموجب المواصفات التنظيمية التي طرحتها ان يصدر مرسوم رئاسي يقر بالزامية ما تتوصل اليه الجبهة الوطنية المتحدة من قرارات مع الطرف المقابل والمتكافئ الذي تعينه الانقاذ من داخل مؤسساتها الدستورية المجلس الوطني والسياسية المؤتمر الوطني ومن تراه من قياداتها الأخرى، على ان تكون نسب التمثيل بين الطرفين متكافئة. محاورات الوفاق وليس الصراع ان الذي سيحكم بالضرورة محاورات الجبهة الوطنية المتحدة مع النظام روح الوفاق وليس الصراع، وذلك بأن يدرك المحاورون الخطوط الحمر للطرفين فلا يتجاوزوها، فليس منطقياً ان تطرح الجبهة الوطنية المتحدة تمرير السلطة اليها والى تعدديتها السياسية اثر المطالبة بتشكيل حكومة قومية انتقالية كالاثنتين اللتين شكلهما سرالختم الخليفة والجزولي دفع الله اثر ما كان من انتفاضتين في تشرين الأول اكتوبر 1964 ونيسان ابريل 1985، اذ عادت البرلمانية الطائفية التعددية. فمثل هذا الطرح - الذي يبدو مثالياً مهما كانت بواعثه - يتطلب أولاً اسقاط نظام الانقاذ نفسه فلا يكون ثمة مبرر أصلاً للحوار. كذلك ليس منطقياً ان يأتي تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة في دائرة الاستتباع للسلطة كلجنتي الدستور والحوار الوطني، أو ان يقصد بتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم بالاستوزار الذي يقود الى الوزر. فبروح الوفاق بين الطرفين الانقاذ والجبهة الوطنية وبتفعيل الانفراج السياسي الراهن، يمكن تجاوز الخطوط الحمر وفق صيغ مقننة، فليس المهم الآن الفترة الانتقالية أو التداول السلمي لسلطة في بلد أضحت مشاكله أكبر من مليون ميل مربع هي مساحته. فالأهم بناء الجبهة الوطنية المتحدة ووضع برنامج وفاقي استراتيجي لانقاذ الوطن مما هو فيه داخلياً واقليمياً وعربياً ودولياً. ذلك هو صلب حواراتي في الخرطوم وأسمرا وبعض العواصم العربية طوال العام 1997، وضمنتها في كتاب سيصدر قريباً - بإذن الله - عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الخرطوم ويشمل مقالات "الحياة"، التي تعرف بهذا الاسم الآن، وحملت نقدي للنظام نهاية عام 1996 ومطلع 1997. فالثغرة اتسعت حقاً. غير ان أهم ما حدث نهاية هذا العام هو الدفع المتقدم لهذه الجهود المضنية اثر زيارتين للخرطوم تمتا في الفترتين 21/11 - 5/12/1997 و15/ 12 - 20 /12/1997 وما بينهما زيارة لأسمرة 6/12 - 13/12/1997 وبعض العواصم العربية. استهدفت في كل هذه الجولات القصيرة والسريعة ان أتلمس ما يمكن انقاذ الوطن به، وفي اطار المشروع الذي طرحت خلفياته، اذ اني لست وسيطاً بين أطراف النزاع السوداني - السوداني، أو طرفي النزاع السوداني - الاريتري، ولست في الموقع الذي أعطي بموجبه أي ضمانات باسم النظام لأي قوى سودانية أو اقليمية أو عربية. فجهدي ينحصر تماماً في معرفتي الدقيقة بحسابات كل الأطراف وقدراتها والمدى الذي يمكن ان تصله سواء أعلنت ذلك أو لم تعلنه، وكذلك الصدقية التي تتيح لي التحرك بين هذه الأطراف. في هذا الاطار وبخلفية هذا الطرح تلمست عن كثب وجهات النظر الاريترية - التي أدركها سلفاً - فليس ثمة نية في "قطيعة دائمة" لكن ليست ثمة رغبة في اي "مناورات سياسية أو ديبلوماسية أو اعلامية أو وعود بلا عمل أو انجاز". ويكفي ان السيدة أولبرايت لم تأت اسمرا، ولم تلتق بالمعارضة السودانية فيها، وتلك رسالة اريترية واضحة للخرطوم، فأجندة اريتريا غير اجندة الولاياتالمتحدة في ما يختص بالسودان والسيدة أولبرايت تدرك ذلك، غير ان البعض ليس مدركاً لذلك. وفي هذا الاطار، وبترتيب من الأخ الدكتور عمر نورالدائم كان لقائي المطول بالسيد الصادق المهدي في أسمرا، اذ حاورته كرجل دولة يعرف متاعب رئاسة الوزارة، ومشاكل السودان، وليس كزعيم حزب طائفي، وذاك موقفي منه منذ الرسائل المتبادلة بيننا بعد انتفاضة نيسان 1985. وعلى خلفية المشروع نفسه كان حواري مع الأخ العميد عبدالعزيز خالد، الذي يصفه البعض بالشيوعية وأصفه بيسار الوسط، وذلك اثر عودته من لقاء السيدة أولبرايت في يوغندا. وما بيني وبين عبدالعزيز خالد ومنذ العام 1995 محاورات لا تنقطع ويعرف موقفي المعارض للتجمع في أسمرا. اذن: كيف يرى هؤلاء، جميعاً جدوى جهودنا في الداخل؟ والى أي مدى يقدرون صدقية النظام؟ والى أي مستوى يمكن ان يقارنوا بين حيثيات التغيير من الداخل وحيثيات المعارضة في الخارج؟ وما هي اجندة اولبرايت الحقيقية التي أتت من اجلها ومدى تأثيرها على المعارضة وعلى النظام أيضاً؟ وما هي آفاق الحلول التي نقارب التوصل اليها مع الأخذ في الاعتبار لحسابات كل طرف. حتى لا يبدو مساوماً أو متهالكاً؟ وهي حسابات كما قلت سودانية واقليمية وعربية ودولية؟