صدرت منذ أيام أحدث مجموعة قصصية للكاتب المعروف بهاء طاهر صدر له - من قبل - ثلاث مجموعات: "الخطوبة" 1972، "بالأمس حلمت بك" 1984، "أنا الملك جئت" 1985، وأربع روايات: "شرق النخيل" 1985، "قالت ضحى" 1985، "خالتي صفية والدير" 1991 و"الحب في المنفى" 1995. يُحسب لبهاء طاهر - من جهة - خروجه بعنوان المجموعة من وهدة الشكل التقليدي، باختيارعنوان إحدى القصص عنواناً للمجموعة، إلى استحداث اختيار جديد، حين اتخذ من فقرة الافتتاح الأولى لقصة "فرحة"، التي كانت "ذهبت الى شلال" عنواناً للمجموعة. ولكن يُحسب عليه - من جهة أخرى - افتقاد قصص المجموعة السبع الى وحدة تجمع بينهم، وان كوّنت ثلاثة منها ثلاثية للحب، ولو اقتصرت عليهم المجموعة لكفاه، فالأمر - هنا - لا يرتبط بالكمّ، بل التجانس، وهو ما افتقدته المجموعة، حين اضاف إليها قصتين قديمتين عن حقبة عبدالناصر قصتا "شتاء الخوف" و"لكن"، واخرى عن تأثير جو الاغتراب على البشر قصة "الملاك الذي جاء"، ورابعة ربما كان المرجح ان تكون جزءاً من رواية لم تكتمل فصولها بعد قصة "من حكايات عرمان الكبير". ذروة الحب تبدأ ثلاثية الحب من ذروة عالية، بقصة "فرحة"، يرويها عاشق ولهان. وانظر الى مفتتح القصة "ذهبت الى شلال ولم أكن من قبل ذهبت الى شلال. كنت أحب وكنت سعيداً"، نحن، هنا، أمام مفتتح يحكم بناء القصة بأكمله، أما فعلين متجاورين: احدهما مادي خارجي ملموس، هو الذهاب الى شلال للمرة الأولى، والثاني فعل معنوي داخلي غير ملموس، هو أنه يحب. فعل الذهاب مضى وانقضى، وفعل الحب قائم مستمر. فعل الارتحال إلى شلال بالنسبة إليه جديد غير مسبوق، بينما فعل الحب جاء "بعد حزن، بعد أن فقدت أحبة رحلوا وبعد أن خسرت حبيبة". فعل الحب، نتجت عنه سعادته، التي فسّرها - بعد ذلك - بقوله "جاء فأخضرت الاشجار واستيقظ في قلب الشتاء ربيع"، بينما لم يوضح ما صاحب فعل الذهاب الى شلال، وما ترتب على مشاهدته من مشاعر وأفكار ورؤى، وهو موضوع القصة، الذي سيستعيده تالياً - لكنه - في الوقت ذاته - زواج بين الفعلين في لقاء واحد، من المبتدا، حين بيّن "واعدتني حبيبتي أن تلقاني عند الماء". هنا، يكون مسرح القصة قد أصبح مهيئاً، لعرض موضوع الرحلة، التي ركب خلالها قطاراً، واجتاز جبالاً ومراعي وانهاراً، ورأى الكثير من مشاهد جمال الطبيعة في سفرته، حتى وصل الى تلك البلدة، الصغيرة، حيث لم يسأل عن الشلال، لأن هديره الهائل كان يدعوه، يقود خطوه عبر الطرق الى نهر، بل الى مجرى ماء، لا تبدو لمياهه حركة إلا حين تصطدم بجنادل من صخور سوداء، ويستمر الصخب المدوّي يدعوه في تجاه صخرة عالية تتوسط النهر، وعندها "يتجمد خطوى ويشهد الكون كله من حولي"، حيث يهوى النهر كله نحوالاسفل متلاطما ًومدوماً. وكان وحيدا أمام الصخرة يتخلله الشلال بأصواته وألوانه، ليتوحد معه، يشده حنين جارف الى الماضي السحيق، الى لحظة الخلق الأولى!. وحين هبط سلماً حجرياً أمام الشلال "وعيني لا تفارق الماء المتدفق في مهرجان ألوانه وغنائه ربتت يد على كتفي، وحين التفت وجدتها وكانت تبتسم، ضممتها الىّ كأني أريد أن أدخلها في جلدي، كأني أريد أيضاً أن نصبح واحداً أنا وهي والشلال والكون". إنه الحب، كما الشلال، يفتح الآفاق ويشق الطرق، عند الالتقاء مع أحد عناصر الطبيعة، في لحظة وجد، تتكشف فيها أمامنا بعض من حقائق الحياة، حين نعود منجذبين بذلك الحنين الجارف، الدفين، الى الانتماء الأصلي القديم، الى رحم الطبيعة، الأم، متوحدين - في الوقت ذاته - مع حركة الكون بأكمله!. ما يكدّر الحب القصة الثانية، من قصص ثلاثية الحب، هي "أسطورة حب" وهي قصة رقيقة، ذات رموز شفافة، تجري قرب غدير، وسط مظاهر طبيعية ريّانة، وصبي صغير يلعب، يرى ملاكاً صغيراً يهبط من السماء ويبتسم له، فيسأله: "أنت صديقي" فيؤمئ له برأسه، ويبتعد وهو ينشد "أغنية لا أفهمها". ثم ظهر صياد وأشار له أن يتبعه، وفي الكوخ وجد بنتاً جميلة، وقال الصياد: "تحابا وبعدها نذهب كي نصطاد"، ثم اختفى. فمد يده للجميلة وتحابا. لكنه رآها تبكي، وسرعان ما أوضحت له أن العجوز ساحر شرير، فأخبرها أنه سينقذها وسيساعدها صديقه الملاك. عندئذ ظهر الساحر، فعذب الولد وانصاعت البنت لأوامره خوفاً منه. حتى ظهر الملاك يلبس ثوباً أبيض رمزاً للنقاء والطهارة والضياء والعدل والصلاح وانقذهما من براثنه، فأنطلقا يتمتعان بحبهما قرب الغدير، وكان الملاك يأتي كل يوم "وينشد اغنيته الغريبة" ثم يبتعد. حتى جاء يوم قالت فيه البنت "سئمت ولم يعد للثما طعم" فكانت ايذاناً بإفول الحب، فهناك رأى الملاك يرفرف قريبا ًمنه، وقد "سكن النشيد"، فأشرقت الحقيقة على الولد، فقال: "إذن، فلهذا كانت الأغنية حزينة؟". هنا رموز شفافة، تعزف ببساطة معزوفة الحب، التي تنشأ بين ولد وبنت ذكر وأنثى، تحت ظلال الطبيعة الوارفة الغدير، الخضرة، والطيور يظلله ملاك رمز النقاء والمودة ويترصّده شيطان رمز الفساد والشر والضغينة، لكن الحب، كما الحياة، قد يعترضه السأم رمز كل ما يسبب الجفوة ويفسد الحب، وله، في الوقت ذاته، قانون يحكمه، يتسق مع قوانين الحياة والكون، فالكل الى إفول وانطفاء وزوال، وكان الملاك يعرف، لذلك كانت أغنيته حزينة!. أطلال البحر بدأت ثلاثية قصص الحب، من أعلى ذروة له، وهو يتدفق قوياً بين البشر، متسقاً متوحداً مع الطبيعة والكون، وكشفت القصة الثانية أنه محكوم بقانون الحياة نفسه. وفي القصة الثالثة "أطلال البحر" يضع ما سبق التوصل إليه في إطار صورة أشمل للحياة ككل!. والآن، للنظر الى مفتتح القصة "سار محاذياً للبحر يبحث عن مدينته". لنتوقف، أولاً، قليلاً أمام هذا التجاور بين البشر والطبيعة: في قصة "فرحة" فتى و فتاة يجاوران نهراً وشلالاً اثناء حبهما، في قصة "أسطورة حب" ولد وبنت يجاوران غديراً قبل واثناء وبعد تجربة حبهما، وفي قصة "أطلال البحر" عجوز يجاور البحر بعد أن مضى حبه وانقضى، قد يتفسر هذا التجاور، بأن الحب يجمع بين مختلفين: بشر وطبيعة. بشر يمتلكون مشاعر تضفي تنعكس ألواناً على مظاهر الطبيعة الساكنة من حولها. كما أن مشاعر البشر، تلك، قد يصيبها التغير أمام طبيعة بثباتها واستقرارها خير شاهد على تلك المشاعر عامة لحظة وقوعه أو على الحب خصوصاً!. أما الجديد، في هذا المفتتح، فهو أن العجوز قد تحدد هدفه منذ البداية، أنه يبحث، ايحاء بأن هناك شيئاً مفقوداً أو ضائعاً أو منسياً، يبذل جهده من أجل العثور عليه واستعادته. فاذا بهذا الشيء قد تحدد، بأنه مدينته، التي قد تكون المدينة بمفهومها المادي، وبذلك فهو يعني مدينته القديمة، التي عاش فيها. وهذا المعنى، هو ما أكده بعد ذلك، حين أوضح أنه يعاود المجيء كل عام، "لكي يلتقي بأيام الفرح"، "لان صورتها تستدعيه كما استدعته من قبل". منظور الرؤية - في هذه القصة - أرحب، لأن التناول يتم بعد انقضاء عمر طويل، من خلال سنوات الشيخوخة الأميل للتأمل، ومعاناة آلام المرض، ومعايشة الذكريات "لكم كانت الحياة تصبح جرداء لولا ذلك الندى! ذكراه واحة في صحراء العمر. وإلا فما الذي جاء به الآن متحاملاً على ساقين موجوعتين؟". انها ذكرى حب تراوده، يفيء بظلها في فريق العمر. وأنظر إليه يعقد مقارنة بين هذا الحب وحبه لزوجته "تساءل هل أحبها أكثر من زوجته التي رحلت منذ سنين والتي ظل يبكيها طويلاً؟ ما المقصود؟ الحب العنيف الذي عاشه في أيام الزواج الأولى، أم تلك الصداقة المتقلبة التي استمرت بينهما بقية العمر مع العشرة والأولاد؟ لا وقت للكذب. فلماذا يتحامل إذن على ساقين عجوزين مرهقين ليعيش لحظة مما كان؟" كانت "نوال" المحبوبة، مطلقة جميلة عملت تحت رئاسته المباشرة في مكتب الشركة، "علمته حباً لم يعرفه إلا معها"، و"أعطته كل شيء، فماذا أعطاها؟ الحب المختلس في القاهرة؟ الاسكندرية في آخر الشتاء وفي آخر الصيف؟ الاسكندرية حين تكون خالية من الزحام وجميلة؟ هي لم تطلب أكثر من ذلك. كانت تبدو سعيدة وهما يجلسان في ذلك المقهى الداخل في البحر، وحدهما تقريباً" ثم فجأة، انتهى كل شيء حين تزوجت من آخر، عندئذ "انفرط انسجام الكون من حوله". إنه الآن، يعود وحيداً يبحث عن البحر، الذي عاصر تجربة حبه وكان شاهداً عليها، فإذا به يكتشف أن هذا البحر ليس بحره، لقد شوهه البشر، وتحول المقهى القديم بعجوزه، الذي كان يحنو ببسمته الودودة على المحبين، الى كافيتريا بجرسونات "متجهمون متأنقون، يلبسون سترات ضيقة صفراء وبابيونات سوداء لماذا؟ حاصروه بنظرات بقشيشية افتراسية". هنا، اطلال عالم قديم، بعد أن تغير وتشوه، فكان منطقياً أن يرفض العجوز ما يراه، وأن يغادر المكان متعجلاً، فكادت أن تصدمه سيارة مسرعة، ساعده قائدها الشاب، حتى أمسك بالحاجز المعدني، الذي يطل على البحر "كان دبيب النمل في قدميه يتحول بسرعة الى لسع النحل. أراد أن يصرخ ولكنه همس وهو ينظر أمامه مخاطباً البحر الأزرق: - ساعدني يا صديقي. ساعديني يا نوال! ولكن دموعاً نزلت من عينيه، فلم يعد يرى البحر"