ربما لا يكون جديدا أن تقع على مجموعة قصصية لكاتبة، فتجدها محاطة بالألم، ولكنك في العادة تجد هذا النوع من الألم ممزوجا بدراما رومانسيّة، أما في حالة الكاتبة البحرينية ابتهال سلمان ومجموعتها القصصية الأولى «ولد» الصادرة عن دار فراديس عام 2012 فإنك أمام حزن فريد يلف نصوص المجموعة نابعا عن رؤية معمقة للحياة وفلسفتها بما فيها من مآسٍ وكوارث ناجمة عن السلوك البشري في تمظهراته السلبية العديدة بشتى طبقاتها من قاع السلم الاجتماعي إلى أعلى الهرم السياسي. لكنّ هذا لا يختصر التميّز في هذه المجموعة التي لا تقول الفكرة ببساطة ولا تعبّر عن المعنى بطريقة مباشرة من دون أن تجري على الثيمة بحثا يكشف عن أعماقها ويسلط الضوء على تفاصيلها ويجلي دقائقها، وكأنّ الكاتبة نحّات يعمل إزميله في جماليات النهايات بعد أن يكون قد انتهى من هندسة معمارية لمجسم لغوي. بين الولادة والموت لنبدأ من النصّ الذي عنونت به المجموعة وهو قصة «ولد» ومنه استلت عتبة بوابة المجموعة أي (الإهداء): «إلى الأولاد العالقين في الجانب الآخر من الورطة، ها أنا أفتح الباب» فعن أيّ باب تتحدّث؟ الكاتبة تعتبر الولادة في عتبتها هذه ورطة، وتنصح الأولاد الذين يقتحمون أحلامها ويلحون عليها بأن تلدهم وتقول لهم «هناك من سيضربكم في المدرسة، ما قبل الولادة ورطة أيضا لأنه حبس وتوق للوجود، وحين يولدون يتملص الأطفال من الحياة ويغادرون بحيل وطرق لا يفطن لها الآباء، وما بعد الحياة أيضا لا تخلو من ورطة، إذ يذهب رجل إلى ما يظنه الجنة فيجد نفسه في جحيم بما يتناسب مع عمله في الحياة، إذ كان ظاهر عمله الصلاح وباطنه الفساد. وهناك يرى رجلا يعيش حالة مناقضة لحالته يعيش في الجحيم. هذه رؤية فلسفية، إذاً لا يمكن أن نصفها بالتشاؤم على رغم مسحة الحزن، وذلك لوجود سمة الواقعية، فالتشاؤم لون من السلبية والهجاء المجاني للحياة والوجود». مأزق جماليّ أما الإشارة إلى مكامن الألم في الوجود من ذرته إلى مجرّته فهو يعدّ لونا من الإشارة إلى النقيض، فتعرية الظلم دعوة إلى العدل، وكشف العهر دعوة إلى الطهارة، ويبقى أن جزءا من مسحة الحزن نابع من شفافية الروح التواقة إما إلى الكمال أو إلى الجمال، فالولد المحبوس في عالم الغيب التوّاق إلى الولادة تعبير آخر عن شوق الأمومة إلى الطفولة، أما الأطفال الذين يجهدون أنفسهم في ابتكار أساليب الرحيل عن عالمنا بابتلاع مواد منظفة أو رمي أنفسهم أمام حافلة في لحظة غفلة أو غيرها من أساليب تهديهم إليها عبقريتهم، فالدافع العميق لهذا الهروب هو ما لا تصرح به القصة، قد يكون هذا رمزا لهرب الطهارة والبراءة والجمال من عالم مليء بالبشاعة، لكن القصة في نهايتها تلمّح إلى دافع ومسببات هذه الظاهرة الغريبة عبر صدور الأمر الرسمي بمنع موت الأطفال، إنها قصة فنتازية ذات رمزية ممتعة، يمكن مقارنتها بقصة أخرى في المجموعة تتحدث عن مجرم يقود الغرباء لتدنيس شرفه، لا تجدي الشكوى سوى حبسه لعشرة أيام والإفراج عنه بكفالة أما وشاية زوجته الكاذبة عليه بأنه يمارس أعمالا معادية فتبقيه في الحبس قرابة العام قبل أن يفرج عنه بعفو عام فيعود ليعرض عليها العفو وفتح صفحة جديدة لكنها ترفض وترى أنها ليست بداية جديدة إذا كانت معه. هذه القصة تشير إلى ذات الاتجاه الرمزي للقصة السابقة مع أنها واقعية التكنيك، القرار الرسمي هلال مفتتح الحياة الذي يقرر حياة الأطفال أو تهيئة ظروف الحياة لهم قبل ذلك، أو موتهم أو منع الحديث عن موتهم، وهو هلال المختتم والموت أو السماح بالعودة إلى الحياة لمن لا يستحق الحياة. نافذة من طفولة لعلّ ما سبق قد نجح في أن يوضّح أن الطفولة كانت معبرا مجازيا يوصل القارئ إلى العديد من المعاني العميقة، «بابا السوبرمان» وهي القصة الأولى في المجموعة كتبت بعيون طفل يراجع نظرته لأبيه الذي يرى فيه القدرة الكلية المطلقة ثم تطلعه المواقف المحزنة والمؤلمة على بشريته بل ضعفه قياسا بأقرانه، إلا أنها تكشف من ناحية أخرى عن معاناة أب تختطف ابنه عصابة شوارع. القصة الثانية «ولد» وتليها «حيث لا يموت الأطفال»، مضى الحديث عنهما، والرابعة «خروج النمل عن صمته»، فنتازيا ترتدي قناع تقنية طفولية للحديث عن قضية شأن عام بطريقة مشابهة لما حدث في القصة السابقة لكنها تأتي على لسان النمل لا على لسان بني البشر. وتتشابه مع هذه القصص القصة الأخيرة في المجموعة المعنونة «جرّبت الغرق» فهي تجري على لسان الطير لكنها تكتنه فكرة الصراع بين القديم المحافظ والحديث الذي تغريه التجربة. النهاية مفتوحة لا تخلو من غموض، فالتجربة المغرية هي اختراق «السطح» والنظر من داخل العمق إلى جمال السماء وممارسة تجربة ملامسة الموج واحتضانه، ومفردة «السطح» تشي بانحياز إلى التجريب، ولكن التعبير عنه ب«الغرق» لا يخلو من مسحة سلبية ومعه التعبير عن الاختناق والبرد، يقيم النصّ توازنا، ولا ينحاز لطرف إلى ليعود للتوازن بشيء من الاصطفاف مع الجانب الآخر، ويستمر الصراع إلى الأبد. في ظلال الحبّ في المجموعة قصتان يمكن أن تنتميا إلى عالم الحب الرومانسي من بين 11 قصة ما لا يشكل نسبة مؤثرة، بل الملفت أن يعبر الموت إلى منطقة الحبّ، فالنهاية في القصتين تحطّم واصطدام، فالأولى «إزعاج» تنتهي بصوت ارتطام هائل لخزف عانق الأرض وتحوّل إلى ما لا يمكن إصلاحه، وتنتهي قصة «أنت حلو والبحر مالح» بارتطام تصفه بأنه «خفيف» هذه المرّة ولكنّه في الحقيقة يشبه الاحتضار: وشاهدتني بعدها أحلّق بسرعة، أقترب من سطح الحافلة بسرعة، كان مستمرا بالتقافز، ولا بدّ أني فكّرت أنه حلم.