الأديب نيروز مالك من مواليد حلب عام 1946 عضو جمعية القصة والرواية اشترك في المعارض الرسمية لغاية 1967 نشر عدة روايات منها: "زهور كافكا" و"فتى قيبار" ومجاميع قصصية وهي: "الصدفة والبحر"، "حرب صغيرة" ، "كوب من الشاي البارد" ،"كتاب الوطن"، "أحوال البلد" ، "باب خشبي قديم"، "المغامرة السابعة" ،"مارواه الجليل "، "تلك الحكايات". وتصدر له قريبا رواية (تكرار الطفولة) يميز نصوص هذا الروائي عموما نجاحه في تحويل الحادثة التاريخية والرموز إلى مساق ملهم ومبدع في زخم تجاذب الأنا والآخر. وقد كان لثقافة اليوم هذا الحوار معه: * هناك مقولة للشهير أوسكار وايلد "في الحياة نعمتان: حب الفن، وفن الحب." بعد توقفك عن الرسم.. كيف ترى مغامرة الكتابة التي منحتك رواية "زهور كافكا " و "فتى قيبار"؟ - الحديث عن الفنون معقد ومتشعب، ولكي لا ندخل في هكذا حديث أريد أن أتحدث باختصار ووضوح عن طرفي المقولة المعادلة. برأيي لو عرف الإنسان، فن الحب، لما عرف الكره. وكل الصفات السلبية الأخرى التي يمكن أن يتصف بها الناس. ولكي يجيد الإنسان هذا الفن، أقصد، فن الحب، عليه أن يمتلك وعياً يرتقي إلى مستوى وعي أوسكار وايلد. منذ صغري، ويفاعة سني أخذت أجهز نفسي لأكون فناناً تشكيلياً. وقمت بكل الخطوات الجدية لذلك. درست الفن، تخرجت في المعهد، أقمت معارض فردية، وشاركت في معارض جماعية في سورية. كنت أنام وأستيقظ وأتنفس الفن التشكيلي.. وفجأة ذات يوم وكان في 10 حزيران 1967، بعد الهزيمة المأساة، وبعد الاستيقاظ من حلم تحرير فلسطين الذي ظنناه بات قريب المنال. وجدت نفسي في هاوية بلا قرار. في هذا اليوم. قطعت علاقتي بعالم الفن التشكيلي وقررت أن أكون كاتباً، تحت ذريعة وحجة أن الرسم لا يستطيع أن يعبر عن مأساتنا مثل الكتابة. ظللت مدة سنتين وأنا أتدرب وأتعلم على أيدي تشيخوف وموباسان وأو. هنري وحتى إدجار آلان بو.. لمعرفة كيف كتبوا القصة. بعد عامين من التعلم نشرت أول قصة لي.. أعتقد لولا "حب الفن" لما قمت بهذه المغامرة المجنونة. أنا الذي لم أعرف شيئاً، سابقاً، عن عالم الكتابة. صحيح كنت لا أوفر كتاباً يقع تحت يدي إلا وقرأته، إلا أن القراءة وحدها لا تجعل منك كاتباً كان يمكن لي أن أفشل فشلاً ذريعاً.. انتهى مثلما انتهى كثير من المبدعين إلى الفشل ومن ثم الضياع. * في رواية "فتى قيبار"يستخدم الكاتب ضمير الغائب متمثلا بالفتى الذي يقوم برواية احداث مختلفة هل كان تأثراً أم استعارة رمزية لشهرزاد الحكائية؟ - شهرزاد هي راوية أسفار ألف ليلة وليلة الأربعة. أما فتى قيبار فهو راوٍ لأحداث حياته في مرحلة اليفاع.. هذا الروي، برأيي، لا يعطيها حق الامتياز، أو صك براءة اختراع لها في مسألة الروي. إن الامتياز الحقيقي لها هو فكرة الروي وليس الروي بحد ذاته.. هذه الفكرة الخبيثة والذكية التي تنطلي على الملك شهريار.. وهي أن تقص عليه في كل ليلة حكاية أو جزءاً منها من أجل إطالة عمرها وعمر بنات جنسها ليلة وراء أخرى. ورواية "ظلال الليالي"، هي إعادة قراءة معاصرة ل "ألف ليلة وليلة" ولكن من دون شهرزاد، إنما على لسان كاتب، عليه أن يطبق تعاليم طبيبه، لأنه يعاني من مرض ضغط الدم المرتفع.. وسبب المرض ليس عضوياً وإنما نفسي وعصبي.. لهذا، كما يوصيه الطبيب، عليه أن يكتب شيئاً ما في كل ليلة.. لخفض مستوى التوتر والضغط السياسي والاجتماعي الذي يعاني منه. * لماذا لم نر السيرة الذاتية للكاتب نيروز مالك في أعماله.. هل السيرة الذاتية حين تكتب حول الكاتب تجعله قابلاً للقراءة ؟ - عندما يكتب أحد ما سيرة ذاتية لمبدع، لن يحصل القارئ منها سوى على قشور هذه السيرة. أي على، ولد وعاش ومات، تزوج وأحب.. الخ أما تفاصيل روحه وأرجاء قلبه فلا أحد يستطيع أن يكتبها سواه. وفي جملة من الاعترافات، سأنشرها قريباً على صفحتي الفيس بوك، كتبت الاعتراف التالي: في كل ما كتبت من قصة ورواية وحكاية، كان فيها شيء من سيرتي الذاتية، إلا أنني لم أشأ أن أبرزها للقارئ كثيراً أو كجزء منها، إنما كانت دائماً كجزء من الحياة برمتها. رغم اعترافي هذا، أستطيع القول: في روايتي "فتى قيبار" قدر من السيرة الذاتية تساوي قدر التخييل الذي فيها.. ورغم ذلك فهي ليست سيرتي إنما هي سيرة فتى قيبار.. * في رواية "فتى قيبار" يظهر أحداث فلسطين في عام 1948 والعدوان الثلاثي على مصر وتأميم قناة السويس عام 1956 وما رافق هذه الأحداث الجسيمة من صراعات في المجتمع العربي.. هذا التركيز على الجانب السياسي في الرواية.. كيف تعاملت معه؟ - صحيح هي جوانب سياسية آنية عاشها المجتمع العربي عامة والسوري خاصة ولكنها أيضاً هي أحداث أصبحت في ذمة التاريخ. أي لا يمكن أن يتناولها الكاتب كجوانب سياسية فقط. ولكن قدر الفتى ان ينوجد قريباً (تاريخياً) من هذه الفترة، وأن يحفظها في ذاكرته، وأن يرويها فيما بعد من وجهة نظره. * ما يعصف في سورية من أحداث هل يدفعنا للقول - إن الرواية العربية مرتهنة بقدر الحرب - أم هي نوع آخر من المقاومة الثقافية؟ - لا شك أن الأحداث التي عصفت بجملة من البلدان العربية، ومنها سورية ستؤثر على النتاج الابداعي. لأن الكاتب لدينا ما زال ملتصقاً في مجمل نتاجه بمجتمعه ومشاكله. لم يوجد، لن يوجد، تيار أدبي يأخذ شكل الجماعة في أي قطر من أقطار العربية يكون في نتاجه الابداعي بعيداً عن قضايا مجتمعه، لا شك هناك بعض الأصوات تبرز هنا وهنالك، ولكنها لم تشكل تياراً.. عندما أطالع اليوم بعض نتاج الأدب الغربي المعاصر، أجد نفسي أمام أدب أنا غريب عنه. أدب لا علاقة له بما نعاني منه نحن، مثل الحريات العامة وحقوق الانسان والفقر والجهل الخ. لم أعد أجده أدباً يمكنني كقارئ عربي أن أتعاطف معه كما كان مع أدب همنغواي وفولكنر وسارتر الخ. أي عمالقة الأدب الغربي في النصف الاول من القرن العشرين الماضي الذين كنت احس بهم، كأنهم يتحدثون عن مشاكلنا الاجتماعية. أدباء الغرب اليوم لم يعودوا يكتبون عن المشاكل القريبة من مشاكلنا إنهم يكتبون عن عوالم لا تمت بنا بصلة. لأعد إلى سؤالك. نعم الحرب وما جرى من زلزال في الوطن العربي خلال العامين الفائتين سيترك أثره على الأدب، خاصة في الرواية. لأنه لا يمكن لأي كاتب سوري أن يتجاهل ما جرى وما زال يجري على الأرض السورية من قتل وتدمير وتهجير للإنسان السوري. بالنسبة لي. كتبت عملاً روائياً بعنوان "ساحة الجابري" وهنالك أعمال كثيرة لكتاب آخرين تنحى هذا المنحى ستظهر في القريب العاجل، لترسم صورة ما جرى في سورية،لأن ماجرى لا يمكن لأي كاتب سوري كان ان يتجاهله في إبداعه القادم. لأن الكاتب السوري بطبعه كان، وما زال، قريباً جداً من شعبه ومجتمعه ومجمل الصراع الذي يعيشه، إن كان داخلياً او يفرض عليه من الخارج. انها ثقافة المقاومة، ليس من أجل قيمة فقط ، إنما من اجل وجوده أيضاً. * نيروز الفنان ألا ترى أن هنالك مشكلة هي منح اللوحة عنواناً.. وذلك للاختلاف مابين الرؤية الفنية والأدبية وتداخل بينهما وهو توجه أدبي أكثر من كونه يحمل رؤى فنية ؟ - لقد لمست جانباً كبيراً من الحقيقة. مشكلة العنوان لدى الفنان التشكيلي، وهذا الأمر كنت قد لمسته بنفسي، عندما كنت فناناً تشكيلياً. إذا رجعنا اليوم، إلى عنوان واحد وهو شائع مثل (طبيعة صامتة ) كم من آلاف اللوحات لمئات الفنانين تحمل لوحاتهم هذا الاسم رغم اختلاف موضوعاتهم وطرق تشكيلها.. بظني، وأنا مع فكرة التخلي عن العنوان إلا في حالات نادرة تنص، إن كان هناك مشروع تشكيلي ينفذ تحت عنوان واحد. مثال مشروع "في سبيل القضية" للفنان السوري الراحل العظيم (لؤي كيالي) وكان معرضاً خالصاً للقضية الفلسطينية، وأيضاً المعرض الذي اقيم في حلب للفنان السوري (سعد يكن) وكان بعنوان "جلجامش" . في هذه الحالات فقط أنا مع أن يكون للوحة عنوان، لأن اللوحة كونها فناً بصرياً، سأجد فيها، كمشاهد، مالا يجد فيها غيري ما وجدت. لهذا على الفنان ان يترك للمشاهد حرية اختيار الاسم لها إن أراد ذلك. هذا الأمر لا ينطبق على الأعمال الأدبية. لا بد للعمل الأدبي أن يكون له اسم ينبع من مضمونه ومن داخله. لان الكاتب يقيدك برؤيته، هذه الرؤية التي مهما حاول القارىء الخروج منها. سيبقى اسير مناخات العمل الابداعي الذي بين يديه.. قد يختار القارئ، في بعض الأحيان اسماً آخر له بظنه الأفضل فهذا الأمر إن حدث، فإنه يؤكد على أن لابد للعمل الادبي ان يكون له عنوان، اسم. * بعد ثماني مجموعات قصصية وست روايات. كيف ترى علاقة هذين الجنسين الأدبيين بعضهما ببعض؟ أين تجد نفسك أكثر؟ - طوال سنوات طويلة لم أكتب سوى القصة القصيرة، رغم أن فكرة الرواية ظلت تجول في ذهني.. وإذا رجعنا إلى أول نتاج مطبوع لي، وكان كتاب "الصَدفَة والبحر 1977" كان عبارة عن قصتين طويلتين أو روايتين قصيرتين. في مثل هذا النتاج، عادة يُلتبس التجنيس على النقد، ولكن الأمرين صحيح. أي بدأت (لا تضحكي) كنصف روائي. وقد جاء في معظم النقد الذي تناول الكتاب، وخاصة القصة الاولى" قصة حب" هي أول عمل ادبي يتحدث عن علاقة الشرق بالغرب الشرقي،أي ما كانت تسمى (دول المنظومة الاشتراكية). والعمل يتحدث عن تجربة شاب عربي عاش قصة حب مع فتاة روسية في اثناء دراسته في روسيا الاشتراكية. وبعد سنوات من كتابة القصة القصيرة استوت فكرة كتابة الرواية لديّ وراحت تلح علّي بقوة.. فكانت رواية "زهور كافكا" كأول تجربة روائية لي. استطيع ان أقول لقد وجدت نفسي في الجنسين معاً. فأنا اليوم اكتب الرواية، وقد نشرت ست منها، ولدّي عملين روائيين جاهزين للطباعة، وكانا سيصدران لولا الأحداث الجارية في سورية. ولدي مجموعتان قصصيتان جاهزتان للنشر، الأولى أمرها طريف لأنها تكونت من القصص التي سحبها الرقيب من مجموعاتي المنشورة.. لهذا أسميتها احجاري الكريمة". اما الثانية فهي بعنوان "ليليات آدم" وهي عشرة قصص عن الحب، انجزتها في(1987) وقد نشرت فرادى في الدوريات المحلية والعربية، ولم أفكر نشرها في كتاب، ولن أنشرها.. * أرجو المعذرة عن المقاطعة: لماذا لم تفكر في نشرها؟ - صدقيني لا أعرف. ذات يوم، وبعد إلحاح من ناشر يملك داراً للنشر وغاليري للفنون التشكيلية، عرض صاحبها علي أن ينشرها ضمن طبعة خاصة، مزينة بمجموعة من اللوحات الزيتية. وقد تبرع أحد الأصدقاء الفنانين برسم لوحاتها.. فوافقت، ولكن على قلق. سار المشروع إلى وصول المخطوطة للطباعة. ففي آخر لحظة، كما يقال، سحبت المخطوط ورفضت نشره. * لمعظم الروائيين مشروع روائي، ما هو مشروعك؟ وأين يمكن للقارئ أن يتلمس ذلك فيما نشرت من الروايات؟ - باعتقادي المشاريع الروائية لا تأتي عفو الخاطر. إنما تأتي بعد أن تصبح للكاتب تجربة عميقة، فتأتي كعامل ضغط ليتكون هذا المشروع شيئاً فشيئاً. أحياناً ينجح وأخرى لا.. عندما بدأت بمثل هذا المشروع لم أكن قد نشرت سوى روايتين، طبعاً إلى جانب مجموعاتي القصصية. أي لم تكن لدي الخبرة الكافية لبناء هكذا مشروع، أقصد الخبرة الفنية. إلا أن خبرتي وعملي في الشأن العام، في السياسة والعمل النقابي وأيضاً الثقافي. هذا الذي دفعني إلى كتابة هكذا مشروع وقد تجلى في رباعية روائية أسميتها "رباعية حلب"، وكتبت جميعها ما بين 1989- 1995 وتم نشرها، (جبل السيدة 2008، بوابة القصب 2010، ميدان الزيزفون2011، المنشية القديمة) والأخيرة قيد الطباعة.. وهي بمجموعها تتحدث عن الانهيار الاجتماعي والأخلاقي والسياسي في سورية، في عقد الثمانينيات من القرن الماضي. تتحدث بلغة واقعية جارحة كحد السكين عما آلت إليه البلاد من خراب اجتماعي وأخلاقي للنظام، في تلك الفترة التي يدفع اليوم الشعب السوري ثمن ذاك الانهيار.