زيارة الرئيس كلينتون الى مناطق السلطة الفلسطينية تجيء في لحظة مصيرية بالنسبة الى القضية الفلسطينية كونها تضع المستقبل الفلسطيني على مفترق طريق خطير. وباشرت اجهزة الاعلام الاميركية وصف الزيارة كونها تاريخية وتصميم البيت الابيض ان يظهر عدم الفشل بأنه نجاح وانه كما حدث في السنوات الاخيرة ستتغلب المظاهر على مضامين النتائج. لكن اخراج البيت الابيض لهذه الزيارة ليس موضوع اهتمامنا بمقدار همّنا ما قد يترتب علىها من تبعات ترهق عملية صياغة المستقبل الفلسطيني. لذا لا مفر من الوقوف على المفترق بغية التأمل لرسم رؤيا تمكن الفلسطيني من تحديد وجهة سيره نحو بناء دولته واخراج كيانه الحالي من وضعه القانوني الملتبس ومن وضعه السياسي المرتبك ومن البعثرة القائمة بين مختلف شرائح مجتمعه. لذا يجب ان ينظر الى الزيارة كونها ترسخ المنطلقات التي جعلت اسرائيل تحدد وتيرة التحرك وتضع بنود اجندة المحادثات والمفاوضات. وعلى رغم ان الرئيس كلينتون سيعمل - كما حصل - على ان ينتزع ترتيبات اقتصادية وتمويلية قادرة على توفير حد ادنى يقلص نسبة المعاناة المعيشية للسكان الفلسطينيين، فان ذلك قد يتم انجازه على حساب الحقوق الوطنية والسياسية والتاريخية للشعب الفلسطيني. السؤال اذاً هو هل تستطيع السلطة الفلسطينية ان توفّر لذاتها هامشاً سياسياً وقانونياً يكفيان لصوغ مشروع واضح لما يجب ان تؤول اليه ما سمي "مفاوضات الحل النهائي"؟ هذا السؤال لن يجيب عنه كلينتون، لا لأنه يجهل ما يجب ان تكون عليه النتيجة بل كونه لا يستطيع. فإن توفرت لديه الرغبة لن تتوفر له فرص ممارسة الارادة. فالبت قد ينطوي على مجابهة مع اسرائيل ومع انصارها في الولاياتالمتحدة. هذا يعني ان حصيلة التأرجح بين رغبة موجودة وإرادة مفقودة تحصر الدور الاميركي بالتزام ثوابت اسرائيل مع المساهمة في ادخال بعض التعديلات من حيث التوقيت او تأجيل الخطوات لصيرورة هذه الثوابت. ان طبيعة العلاقات الاميركية - الاسرائيلية بديهياً معروفة عند السلطة الفلسطينية ومفاوضيها الذين بحسب ما أتصور يعرفون حدود التجاوب الاميركي مع طلباتهم لا مع حقوقهم كما ان من المسلّم به ايضاً ان المفاوض الفلسطيني يدرك ان التيارين الاساسيين اللذين يتجاذبان السياسة الاسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية وابعادها العربية هما: الهيمنة على المنطقة من خلال مصالحة فاقدة التوازن مع السلطة الفلسطينية، او سيطرة استراتيجية على المنطقة من خلال مصالحة فاقدة التوازن مع السلطة الفلسطينية. ان اسرائيل تدرك ان الهيمنة ممكنة اذا جاء تحالف حزب العمل الى الحكم، بينما اذا توخت السيطرة عندئذ لا بد من تسليم الحكم - كما هي الحال الآن - لحزب الليكود وحلفائه اليمينيين. المعضلة تكمن في ان "المصالحة" لن تتم الا من خلال معادلة اختلال التوازن بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية. هذا ما يفسر الالحاح الاميركي على انجاح بنود مذكرة واي ريفر، كما يفسر الارتياح النسبي عند قطاع من الفلسطينيين الذين يتعاملون مع السلطة الفلسطينية كونها حققت بعض الانجازات، مثل خروج قوات الاحتلال من عدد من المدن والمناطق كما فتح مطار غزة وما يشكله من رمزية تنطوي على معان من شأنها تأكيد هوية فلسطينية. صحيح ايضاً في هذا المجال ان المعونات الاقتصادية التي جاءت في اعقاب اتفاقات اوسلو وواي ريفر قد تذلل بعض المشاكل الحياتية حتى وان تلازمت مع طاقم الفساد الذي يساهم في ادارتها. وما دمنا في موضوع الرموز، لا شك ان زيارة الرئيس كلينتون الى غزة ستكون فرصة تثبت وجود كيان فلسطيني، مما يدفع بعض الفلسطينيين الى الاعتقاد ان الرمزية قابلة لأن تصبح واقعاً. ولماذا لا فالمشروع الصهيوني بدأ هكذا وقد تكون الزيارة هي الاعتراف بأن مذكرة واي هي بدء المسيرة نحو التحرير، او كما تريد وتعمل اسرائيل ان تكون زيارة الرئيس كلينتون لغزة تتويجاً لنهاية مطاف المسيرة، او بالأحرى للمشروع الفلسطيني. ففي حين يعمل نتانياهو ان تكون الزيارة جائزة ترضية للتفريط بالحقوق الوطنية والسياسية للشعب الفلسطيني بكل مواقع تواجده، فان السلطة الفلسطينية تسوّق الزيارة كونها مؤشراً الى اعتراف اميركي آت بحق تقرير المصير. وحتى لا تتشكل عند بعض شرائح الشعب الفلسطيني آمال مغلوطة فان الرئيس الاميركي سوف يوفر من خلال هذه الزيارة ابقاء القضية الفلسطينية عالقة في مفترق الطريق لأن السياسة الاميركية لا تتحمل مسؤولية مجابهة مستأنفة بين الشعب الفلسطيني واسرائيل. كما ان كلينتون سيدفع "مسيرة السلام" ان تصبح حركة "المسيرة" مرادفة للسلام، وقد يضمن امتثالاً أدق من اسرائيل لبنود مذكرة واي ريفر. واذا نجح في هذا المضمار تصبح بنود المذكرة هي السقف لما يمكن ان يناله الشعب الفلسطيني حاضراً ومستقبلاً. من جهة ثانية، صحيح انه تبقى مفاوضات الحل النهائي والتي يستبعد تناول مواضيعها في المستقبل القريب، الا انها تبقى ذريعة عند السلطة الوطنية كي تنفي اي ادعاء بأن اوسلو وواي ريفر هما "سقف الحقوق التي يمكن الفلسطينيين ان يتمتعوا بها، اذ ان مفاوضات الحل النهائي لا بد ان تجيء بمزيد من الحقوق المحتجزة. كما ان اسرائيل الساعية الى جعل زيارة كلينتون ترسيخاً للسقف المشار اليه الا انها لن تعلن ذلك نظراً لأن اي اعلان من قبلها بهذا الصدد يلغي اية حرية لمرحلة مفاوضات الحل النهائي. اسرائيل اذاً تعمل على شراء المزيد من الوقت حتى يتسنى لاحزابها والخلايا المتعددة داخل احزابها ان تحسم فيما تريده - الهيمنة كما دعا كل من رابين وبيريز، او السيطرة كما يعمل كل من نتانياهو وشارون. في هذا المخاض العقائدي والسياسي الذي يميز الحالة السياسوعقائدية الآن تعتقد الادارة الاميركية ان زيارة كلينتون من شأنها ان تشتري مزيداً من الوقت لارساء المخاض الاسرائيلي على توجه واضح واقناع السلطة الفلسطينية بتأجيل البت في اعلان - او حتى المطالبة بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، واذا امكن التخلي عن هدف الدولة عندئذ تتم المصالحة بين اسرائيل والفلسطينيين لا بين اسرائيل وفلسطين. والا لماذا ترتبط زيارة كلينتون لغزة بمطالبة المجلس الوطني الفلسطيني بحذف بنود من الميثاق الوطني تتعلق ب "تدمير" اسرائيل. لم يرد في الميثاق بند "تدمير" انما ورد تفكيك مؤسسات صهيونية كان الدافع اليه امكان قيام دولة فلسطينية ديموقراطية تكون لليهود فيها كما للمسلمين والنصارى الحقوق ذاتها. صحيح ان اسرائيل صوّرت هذا الهدف وكأنه "تدمير" للمشروع الصهيوني كونها ارادت ان تمنع حتى البحث او الحوار بهذه الصيغة. نورد هذه المغالطة التي تعمدتها اسرائيل حتى نلقي المزيد من الاضواء على هدفها الحقيقي الذي يظهر بتقطع من خلال الاستيطان او من خلال الضم والتهويد بإزالة او تذويب اي كيان وطني للشعب الفلسطيني. والا كيف نفسر قبول السلطة الفلسطينية بأن تكون زيارة الرئيس كلينتون مشروطة بحذف بنود من الميثاق بدون ان تكون هناك على الاقل شروط فلسطينية مقابلة كأن تكفل اسرائيل اعادة النظر في قانون العودة الذي يمنح كل يهودي حق ان يصبح مواطناً في حين ان اللاجئين الفلسطينيين محرومون من حق العودة الى بيوتهم كونهم ليسوا يهوداً… واذا لم تكن هذه عنصرية فلا نعرف ما هي العنصرية وكيف يمكن تعريفها. واذا قيل ان هذا شرط مستحيل تحققه كون اسرائيل قامت على اساس انها دولة يهودية فالسؤال الذي يجب ان يطرح على الرئيس كلينتون هو فيما اذا كانت الولاياتالمتحدة تعترف باسرائيل دولة يهودية او دولة لليهود. اذا كانت دولة يهودية فهل يوافق كلينتون على سياسة التمييز العنصري والديني الذي تمارسه اسرائيل ضد المواطنين العرب؟ واذا كانت اسرائيل دولة لليهود - وقد ايدت الادارة الاميركية الهجرات الجماعية لليهود و الروس اليها - عندئذ ما هو الموقف الاميركي من قيام المزيد من المستوطنات والطرقات الالتفافية لتتمكن اسرائيل من استيعاب من يشاء من يهود العالم التوطن فيها؟ واذ ارادت السلطة الفلسطينية ان لا تطرح هذه الاسئلة كي لا تحرج كلينتون في زيارته "التاريخية" الى غزة فماذا عن سؤاله عن امور أبسط قابلة للمعالجة السريعة كونها من صلب تفاهمات اوسلو وواي ريفر؟ ماذا عن وقف المزيد من الاستيطان؟ او عن الافراج عن السجناء السياسيين؟ ماذا عن اعلان اسرائيل القدس "عاصمة ابدية" لها؟ لماذا يكون اعلان الدولة الفلسطينية في 4 ايار مايو 1999 اجراء احادياً تنتقده الادارة الاميركية ولا يكون فعل ضم القدس العربية المحتلة اجراء احادياً تنتقده الادارة الاميركية؟ لماذا لا يتجاوب الرئيس الاميركي في زيارته الى غزة مع الموقف الاميركي منذ العام 1967 وفحواه أن الاراضي التي احتلتها اسرائيل هي اراضٍ محتلة؟ لماذا لا يكون هذا الطلب مؤسساً لموقف فلسطيني اثناء الزيارة؟ لماذا يجوز لاسرائيل - ولنتانياهو بالذات - ان يقول انه لن يفرج عن اي سجين فلسطيني "ملطخة يداه بدم يهودي"؟ في حين ان أيدي معظم ان لم يكن كل حكّام اسرائيل ملطخة بدماء الالوف المؤلفة من الفلسطينيين والعرب؟ لماذا يجوز لنتانياهو ان يدعي ان مقتل اي اسرائيلي هو "خرق لمذكرة واي" وان قتل الفلسطينيين من قبل اسرائيل ليس خرقاً لمذكرة واي ريفر وبنودها؟ وهناك "لماذات" كثيرة يجب طرحها خلال لقاء الرئيس الاميركي في غزة. وما دامت الزيارة سوف تأخذ مجراها لا بد من ابلاغ كلينتون الحقائق الرئيسية الآتية: اولاً: يجب ان تدرك الادارة الاميركية والمعنيون ب "مسيرة السلام" ان قطاعات رئيسية من الشعب الفلسطيني غير مشمولة بالصيغ والاتفاقات والمذكرات التي جاء كلينتون لتأكيدها وتكريسها. ثم ان ايصال هذه الحقيقة الى اسماع كلينتون من شأنه ان يوفر مستوى من المناعة في الجسم السياسي الفلسطيني مما يحمي الوحدة الوطنية، هذه الوحدة التي يجب ان تظل فرضية ومسلّمة لكل آليات العمل والنضال الفلسطيني. ثانياً: ان تصل الى كلينتون اثناء زيارته الى غزة رسالة واضحة: ان حلحلة بعض المعضلات الادارية والمالية للسلطة عمل مشكور الا انه يندرج ضمن حيز التحسين لأداء بلدات الحكم الذاتي ومدنه ومناطقه وليس توظيف اموال وموارد من اجل ارساء ركائز دولة. ثالثاً: على الرئيس كلينتون ان يستمع الى العناصر المعترضة او المعارضة لاتفاقات اوسلو وواي ريفر حتى يصبح محيطاً بكل ابعاد وجهات النظر الفلسطينية لا ان يكتفي بما يحلو له ولادارته سماعه. أليس من حق الفلسطينيين الذين شرّدوا من ارضهم وبيوتهم ان يعودوا، واذا لم يعودوا ان يعوض لهم؟ ألم تعد لقرارات الاممالمتحدة ذات الصلة بالمسألة الفلسطينية اي علاقة بصياغة المستقبل الفلسطيني؟ هل ان زيارة كلينتون باعتباره راعي مذكرة واي ريفر يمكن ان تفسر البنود الغامضة فيما يتعلق بالافراج عن السجناء السياسيين؟ هل اصبحت مقتضيات "الامن" الاسرائيلي كما تحددها اسرائيل نفسها هي المعيار الموضوعي لبنود واي ريفر كما تفسرها الحكومة الاسرائيلية ؟ ماذا عن امن الفلسطينيين في مناطق الحكم الذاتي، وفي القدس وفي مقاربة المستوطنات القابعة في اراضي فلسطينالمحتلة؟ وهل ان كل مقاومة للاحتلال اصبحت تعريفاً مرادفة للارهاب؟ وماذا عن التدمير المتواصل لمنازل الفلسطينيين؟ وعن السيطرة الكاملة على الموارد المائية في المناطق المحتلة؟ هذه الاسئلة يطرحها المعارضون والمعترضون على الرئيس كلينتون اذا اتيحت لهم فرصة اللقاء والحوار. صحيح ان الفرصة لن تتاح بما فيه الكفاية لأن مجرد الاستماع من شأنه ان يعيد فتح ملف القضية الفلسطينية برمتها في حين ان اقفال الملف الفلسطيني هو هدف اتفاقات اوسلو وواي ريفر. في الايام والاسابيع المقبلة سوف تظهر معالم المستقبل الفلسطيني - فإما ان تبقى قضية تحرير واما ان تتحول الى مسلسل من المشاكل المتناثرة. كانت فلسطين هوية نضالية… وسوف تبقى!