بعد ملابسات التحقيق في مطار امستردام يواصل رؤوف مسعد سرد "مغامرة" زيارة فلسطين - اسرائيل حيث يكتشف ان التمييز العنصري يتخذ شكلاً اخر هناك. الفكرة اللئيمة خلف التحقيق والاستجواب - على رغم بلاهتها - تفي بالغرض مع معظم الناس. الغرض هو افهام المسافر، بطريقة فظة، ان التصريح له بالدخول الى اسرائيل انما هو منحة وليس حقاً. فنوع الاسئلة وسخافتها لا يعطيان الاحساس بالقلق الامني وهو ما تحاول اسرائيل التأكيد عليه بقدر ما يعطيان الاحساس للملتقي بأن المحقق له الحق في ان يغوص في خصوصياته، وأن يطامن من كبريائه. فالحقائب الكبيرة والصغيرة تخضع للفحص الالكتروني الدقيق، كذلك اجساد المسافرين عبر البوابة الالكترونية. ثم ينتظر المسافر حتى ينتهي موظف الأمن الاسرائيلي من فحص الجواز بالأشعة تحت الحمراء او فوقها، لا ادري ليتأكد من عدم تزييفه، ويستحضر الاسم في الكومبيوتر ليتأكد من "نقاء" ملف المسافر من كل الاحتمالات والشكوك التي يجمعها عملاء "الاجهزة" من المصادر المختلفة. اذن فما الداعي لكل هذه الاسئلة حول الحقيبة، ومن اعطاك شيئاً لتضعه داخلها، الى آخر هذه السخافات الساذجة؟ الاجابة وجدتها خلال تجوالي هناك. اسبوعان من المراقبة الدقيقة وقراءة الصحف الاسرائيلية التي تصدر بالانكليزية ومشاهدة "حرس الحدود" يوقفون الديبلوماسيين الاجانب الذين يدخلون الى غزة، ويتفحصون اوراقهم باستهجان، ويضعون حقائب اوراقهم داخل جهاز الفحص الالكتروني، بل ويرفعون السيارات - حتى التي تحمل ارقاماً ديبلوماسية او ارقام الأممالمتحدة، او السيارات التابعة لكبار العاملين في السلطة الفلسطينية حتى درجة نائب وزير - على الجهاز الهيدروليكي الذي تستخدمه قوات الموانئ والحدود للكشف عن السيارات الحاملة لمواد مخدرة في غزة يبحثون عن القنابل. ثم التفتيش اليومي الذاتي للمواطن الفلسطيني الداخل الى غزة او الخارج منها، والتحرشات المتكررة من الجنود لحركة سير مواكب الوزراء الفلسطينيين ومنعهم من المرور بطريق معينة، ولا يوفرون كذلك ممثلي وسائل الاعلام الاجنبية على رغم الاتفاقات التي تنص على حق المرور في هذه الطريق بالتحديد، كما عاينت ذلك بنفسي! كل هذا يصب في التيار النفسي الذي تخلقه اسرائيل وهو انه ليست هناك "حقوق" لأحد غير اسرائيلي، حتى لو كان يتمتع بالحصانة الديبلوماسية. اسرائيل تقول للعالم: "طز فيكم، انا فوق القوانين جميعها". ... وبعد اسبوعين وأنا خارج من مطار تل أبيب حدث معي التحقيق نفسه: الاسئلة نفسها تقريباً. لكني اكتشفت شيئاً جديداً اضفته الى قائمة اكتشافاتي: ما ان تدخل المطار حتى تجد نفسك امام ممرين، تم تحديدهما بأحزمة من البلاستيك. قال لي صديقي الديبلوماسي الهولندي ساخراً: "عليك ان تسلك الممر المخصص لغير الاسرائيليين من مسلمين ومسيحيين ويهود...". وحينما رأى دهشتي وعدم فهمي شرح لي ما أراه امامي: فهناك مجموعة من الفتيات تحمل كل واحدة جهاز "توكي ووكي" صغيراً تهمس فيه. تقترب الفتاة من المسافر وتسأله شيئاً بالعبرية، المسافر "العبري" يجيبها في الحال، فتطلب جواز سفره لتفحصه بدقة ودربة، ثم توجهه الى الممر المخصص للعبرانيين. المسافر مثلي يوجهونه الى الممر الآخر، بعد السقوط في امتحان العبرية، وبعد تفحص الجواز بالطبع، يقاد بحزم الى الممر الآخر المكدس بالسياح، بالعمالة الوافدة، وحتى باليهود الذين يحملون جنسية غير اسرائيلية. اما العرب الذين يغادرون اسرائيل، ويحملون جوازات سفر عربية، فيتم سوقهم الى صالة اخرى حيث يتم تفتيشهم ذاتياً - من باب الروتين والغلاسة - بالاضافة الى الاسئلة وتفتيش الحقائب مما يؤدي الى تخلفهم عن الطائرة... وبالتالي الى مزيد من المشاكل المالية والنفسية. لم أصدق عيني، فقد سافرت الى معظم بلاد الدنيا بأنظمتها السياسية المختلفة عدا جنوب افريقيا قبل مانديلا. لكن صديقي الهولندي قال بالسخرية نفسها: "هذا هو نظام الابرتايد أمام عينيك، فإذا فاتك ان تراه قبل وصول جماعة مانديلا الى الحكم في جنوب افريقيا... فلا تبتئس، ها هو أمامك". والأبرتايد لمن لا يعلم هو اصطلاح هولندي - جنوب افريقي في لغة "الافريكانا" معناه الحرفي "كل على حدة" وتم استخدامه سياسياً بعد ذلك ليعني "الفصل العنصري". تذكرت ساعتها مواقف سيارات السرفيس، والباصات المتجهة من المحطة المركزية في تل أبيب الى القدس. نظام "المواصلات" العامة، وحتى التاكسيات، في اسرائيل يطبق الأبرتايد. المحطات الصغيرة على جانبي الأوتستراد تنقسم الى قسمين: الاسرائيليون في جانب "على حدة" والعرب بعدهم بقليل... لوحدهم أيضاً. وكل "طائفة" لها سياراتها العامة "الخاصة". الباصات الكبيرة المكيفة الهواء والسريعة لا يركبها العرب الذين يسكنون في يافا وضواحيها. هؤلاء لهم ميكروباصات صغيرة مخصصة لهم عشرة ركاب وبالطبع تمتلكها الدولة أو القطاع الخاص الاسرائيلي. وإذا ما علمت أن الباصات هي وسيلة المواصلات الوحيدة تقريباً لمن لا يمتلك سيارة القطارات في اسرائيل شبه وهمية لعرفت مدى أهمية الباصات، كبيرها وصغيرها، والتاكسيات، والسرفيس، كوسيلة اتصال ومواصلات بين المدن والقرى في بلد كفلسطين - اسرائيل، خصوصاً ان هناك أيضاً دائماً "شارعين": طريق المستوطنين، وطريق البشر الآخرين. وكل من الطريقين، خصوصاً طريق المستوطنين، مغروز بالحواجز العسكرية التي تتفحص حق المرور للسيارات وللبشر أيضاً. ركبت مرة من دون أن أدري - ملتحفاً بجهلي - الباص المخصص لغير العرب المتجه من تل أبيب الى القدس. لم أبال بالنظرات المتسائلة، لكني بعد قليل تنبهت بأني العربي الوحيد في باص ممتلئ بالركاب من جميع الجنسيات... عدا العرب! تحاشى الجميع الجلوس بجواري، حتى جاء جندي شاب واحتل المقعد، ومعه بالطبع سلاحه. لم "اهتم"، فقد كانت هذه رحلتي الأولى بمفردي من يافا وتل أبيب الى القدس، حيث ينتظرني جزء من مجموعة التلفزيون الهولندية على المقهى المقابل لنبدأ أول يوم عمل لنا. التحفت ب "قوة الجهل"، وهو التعبير الذي نحته صديقي أحمد هشام تعبيراً عن حالات مماثلة. ويلخص حكمة مهمة: ان الجاهل أقوى من العارف! وأنا عائد الى يافا، نصحني واحد - برفق - ان استخدم الباص الآخر الصغير حتى اتجنب المتاعب. فهمت الرسالة لكني لم أبال. عامل البطاقات في محطة القدس نظر اليّ بريبة. لكنه باعني البطاقة من دون تعليق. فهم يتوقعون ان "ينصاع" اوتوماتيكياً كل واحد في المكان الذي اختارته له الدولة. وعن تجربة طويلة لهم، فقد تأكدوا من ذلك... ان لا يجرؤ فلسطيني في كامل قواه العقلية على تجاوز "الخطوط الحمراء". ولأني كنت أتحادث بالانكليزية، فأنا بالنسبة الى الاسرائيليين لا بد انني سائح من أميركا اللاتينية كما قال لي مرة مواطن من بورتوريكو حينما كنت في حي هارلم - نيويورك. وهكذا وقفت في مكان انتظار الباص المتجه الى يافا مع المنتظرين الذين تجاهلوني. نصفهم على الأقل من المجندين والمجندات فالتجنيد إجباري لكل من بلغ الثامنة عشرة يتحركون دائماً بأسلحتهم، يخلقون جواً من التوتر المحكوم بأن هناك باستمرار ذلك الخطر المتوقع من العرب الفلسطينيين أعداء اسرائيل. والمستوطنون بالطبع يحملون أسلحتهم جهاراً نهاراً، وهذا ما شجعه حكام اسرائيل السابقون، وبالطبع نتانياهو والمتحالفون معه. أما التاكسي - الاسرائيلي الذي له وحده الحق في أن يتحرك بين مناطق السلطة الفلسطينية، وبقية "الدولة" كما يسمونها، فلي معه تجربة أخرى. ففي عصر ذات يوم كنت عائداً من رام الله متوجهاً الى القدس لأركب الباص إياه الى مقر اقامتي في يافا. الصديق الفلسطيني الذي اقلني بسيارته، كرر اعتذاره بأنه لن يستطيع ايصالي الى القدس لأن سيارته غير مسموح لها بالدخول الى القدس. سيتركني بالقرب من الحاجز الاسرائيلي عند "حدود" رام الله ومن هناك استطيع أن آخذ تاكسي سرفيس الى مقصدي. وقفت أشير الى التاكسيات حتى توقف لي تاكسي مرسيدس أبيض به ثلاثة ركاب. سألوني بالاشارة الى أين، قلت بالعربية "القدس" فأنا في رام الله!. نظروا إليّ لحظة. هزوا رؤوسهم وانطلقوا. بقيت واقفاً، أحس بغضب. ولم أتبين بعد سخافة الموقف كله. أنقذني فلسطيني. شرح لي ما حدث، وقادني الى المكان الذي يقف فيه الفلسطينيون. كنت أقف في "غير مكاني" كما قال لي ضاحكاً لكي يخفف الحرج عني. كذلك اكتشفت ان معظم مقاهي تل أبيب، القريبة جداً من يافا بل والمتصلة بها، لا يجلس فيها العرب فلهم مقاهيهم في يافا وليس في تل أبيب. وأنا شخص أحب الجلوس في المقهى لأنه المكان الذي يعطيك بانوراما هادئة وبطيئة لحال البلد وناسه. بالصدفة، ونتيجة لظروف العمل، أيضاً، كنت دائماً اذهب الى المقهى التل أبيبي مع هولنديين، وبالتالي كانت الغارسونة في معظم الأحيان من الروسيات أو المغربيات تخدمني بلا مبالاة. بالطبع هذا ينطبق بشكل أكثر صرامة، وبجاحة، على المساكن. فالمناطق السكنية، أو الأحياء العربية، لا يعيش فيها الاسرائيليون إلا لغرض سياسي، مثل المتشددين دينياً الذين يستولون على شقة - أو حتى غرفة - في بيت عربي في الخليل أو القدس... فيضطر العرب في بقية البيت للنزوح أو العيش تحت التهديد. هناك مناطق مغلقة على اليهود من المغرب، ومناطق أخرى على الروس، ومناطق نائية وفقيرة لليهود الاثيوبيين "الفلاشة" وهكذا... ذات ليلة اضطررت الى المبيت في كيبوتز بالقرب من الحدود السورية وعلى سفح جبل الشيخ مع مجموعة العمل الهولندية. ما حدث كان صدمة متبادلة لي، وللعاملين في الكيبوتز والسياح الآخرين. فقد كنت الوحيد وسط مجموعة كبيرة من "الأجانب" انتمي بأصولي وشكلي الى جنس آخر لا يقترب من الكيبوتزات وبالتالي لا يبيت فيها! كان الاطفال يدورون باندهاش حول مائدتنا، يتأملونني، كما نتأمل في زيارتنا لحديقة الحيوانات الشمبانزي وهو يستخدم بذكاء أدوات المائدة! وقد استمتعت كثيرا - بشكل شخصي - بالتجربة... لكني لا أنكر اني تنفست الصعداء في الصباح، حينما استقلينا السيارة وتركنا الكيبوتز. التحقيق الى الخارج سألني الشاب الذي حقق معي في مطار بن غوريون عن الأماكن التي زرتها. فقلت له بصدق وبلا مبالاة، اني ذهبت الى الجولان ورأس الناقورة وصفد مركز الأصوليين اليهود المتعصبين وعن الكيبوتز الذي قضيت فيه الليلة وعن نهر الأردن والبحر الميت وتل أبيب ويافا وحيفا وعكا وغزةورام الله والبيرة وبيت لحم والقدس والمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وكنيسة القيامة ودير السلطان المتنازع عليه بين الكنيسة القبطية المصرية والكنيسة الحبشية. وكرر الأسئلة حول الحقيبة ومن رتبها... الخ! كنت أحس بالتعب، متوتراً. دونت ملاحظاتي خلال الاسبوعين في مفكرتي جيب صغيرتين، وجمعت بعض الوثائق من أوراق الأممالمتحدة وقصاصات من الصحف الاسرائيلية والعربية التي تصدر هناك. هذه الأشياء هي رأس مالي، وهي ذاكرتي، أنا الضعيف الذاكرة. يوميات رحلتي، وخواطري، وانطباعاتي. المصورة الهولندية كانت تعابثني عندما تراني أكتب في المفكرة، قائلة: "لا تتعب نفسك، فسوف يصادرون أوراقك". في اليوم الأخير عرض بعض الزملاء من مجموعة العمل أن يحملوا الأوراق بدلاً مني. وعلى رغم اغراء العراض إلا أنني رفضته. قررت ان أدافع عن أوراقي بنفسي... كما كنت أفعل في المعتقل أيام زمان! سألني المحقق في المطار: "لماذا أتيت الى اسرائيل؟ فقلت له: لكي اكتب عنها. نظر إليّ بدهشة غير مصدق. قلت له موضحاً: اني كاتب، وأنا اكتب عن البلاد التي أزورها، وعن الناس... الخ. سألني: هل "كتبي" معي؟ أجب بالايجاب، لكنه لم يهتم بأن يراها. ذهب يستشير رئيساً له يرتدي حلة مدنية سوداء للاسرائيليين غرام غريب بالثياب السوداء خصوصاً الرسميين والدينيين منهم. يرجع ليسألني ان كنت كتبت "ملاحظات" فأجبت بالايجاب، ورجعت أكرر له ان "هذا شغلي" فأنا في النهاية كاتب. بعد مداولات هامسة مع رئيسه، واختفاء طويل بجواز سفري، ارجع اليّ الجواز ووضع ملصقاً برتقالي اللون على حقيبتي الوحيدة طالبني بأن افتحها، ونكش بها قليلاً ثم اكتفى. كنت أقول لنفسي: أريد الآن ان أغادر هذا المكان، أريد ان أرجع الى مكاني الآمن في امستردام، ولتذهب الأوراق - إن أخذوها - الى الجحيم، فسأعتمد على ذاكرتي وعلى الصور الفوتوغرافية التي التقطتها، وعلى الحديث مع مجموعة العمل. حينما وصلت الى مطار امستردام في الفجر واقتربت من الموظف الذي يفحص الجوازات، قدمت له جوازي. لم يفتحه، هز رأسه من دون أن يفتح الجواز، مومئاً لي بالدخول. وهكذا دخلت الى امستردام، من دون إحم ولا دستور، ثم بالتاكسي الى شارعي الذي أعيش فيه منذ أكثر من عشر سنوات، والى بيتي الذي لم يضع مني مفتاحه، لكي أتسلق الدرج الى الطابق الثالث بهدوء حتى لا أوقظ النائمين أو افزعهم، ثم الى غرفتي، ملقياً نظرة سريعة على غرف الأولاد والزوجة. كل شيء في مكانه المعتاد، وكل واحد من أفراد أسرتي الصغيرة ينام في مكانه آمناً. وها أنا ارجع - ايضاً - مرة أخرى الى أمني ومكاني. * روائي وكاتب مصري مقيم في هولندا