في منتصف شهر حزيران يونيو 1998 تلقيت دعوة من التلفزيون الهولندي القناة الثالثة التي اتعامل معها للذهاب الى فلسطين - اسرائيل للقيام ببحث ميداني عما حدث للشعب الفلسطيني بعد خمسين سنة على قيام دولة اسرائيل، وتركوا لي حرية اختيار واسعة لموضوعاتي وتحركاتي. وهكذا استقليت طائرة "العال" من مطار امستردام في السادس والعشرين من الشهر ذاته لأقضي خمسة عشر يوماً هناك، متنقلاً في طول البلاد وعرضها، ما بين القدس وتل أبيب ويافا وحيفا وعكا والناقورة والمطلة والجولان، الى منطقة السلطة الفلسطينية: غزة ورام الله وبيت لحم. واحد من منطلقات بحثي هناك كان التنقيب عن الثقافتين الفلسطينية والاسرائيلية، ومدى العلاقة الجدلية بينهما، وأوجه الاختلاف والتشابه. ما لفت نظري في السنوات الماضية هو انشغال المثقفين في الثقافتين الفلسطينية والاسرائيلية بالبحث في موضوع "الهوية والذاكرة"، وإن كان منطلق كل بحث في كل ثقافة متمايزاً عن الآخر في الدوافع. ولفت نظري ايضاً محاولة اسرائيل - الدولة - ادعاء تمثيل الشعب اليهودي، وبالتالي الثقافة اليهودية. وهذا الادعاء من جانب الدولة الاسرائيلية كان محاولة منها لطمس مجموعة من الحقائق التي بدأت تظهر بوضوح في العقد الاخير، اهمها ضمور ما يمكن تسميته ب "الثقافة الاسرائيلية - اليهودية" اي تلك المرتبطة بالوجود العضوي للمجموع اليهودي في دولة اسرائيل. في الوقت ذاته كنت ادرك، عندما اتخذت قراري بالسفر، مجموعة المحاذير التي تواجهني. خصوصاً من جانب المعسكر الثقافي - السياسي الذي انتمي اليه، بعد اختلاط الحابل بالنابل... اقصد معركة "التطبيع الثقافي" التي اتسعت ميادينها. وامتلأت سماواتها بالسهام، والتي يتحدث عنها محمود درويش في كلمة القاها في ختام الندوة التي اقامها اتحاد الكتّاب الفلسطينيين في جامعة بيرزيت بمشاركة عدد من الكتّاب العالميين، يقول: "اتفهّم دوافع الغياب التي حدت بالكثيرين من الاشقاء العرب الى مقاطعة هذه الندوة سواء كانت نفسية ام ثقافية ام سياسية، كما اتفهم ايضاً دوافع الاشقاء العرب والاصدقاء الأوروبيين وغيرهم ممن حضروا الى هنا ليعبروا عن تضامنهم مع المحاصرين الفلسطينيين... لكن تقويم المعاني الايجابية للحضور والغياب لا يقترب من سؤال التطبيع الذي توشك حرب اهلية ثقافية عربية ان تندلع على مهبّه دون ان يبدي الاسرائيليون تدخلاً ثقافياً علنياً فيها. وكأنها لا تعنيهم!" ويقول في مكان آخر في الكلمة ذاتها: "وبغض النظر عن ضرورة التدقيق العميق في مصطلح "التطبيع الثقافي" الملتبس الى حد بعيد، اذ لا يمكن اكراه ثقافة على اقامة علاقة مع ثقافة اخرى غير سائدة، الا بمدى حاجتها اليها والى خبرتها الانسانية". مجلة "الكرمل" العدد 51. وبالطبع، كون الواحد منا مهتماً بالعلاقة المتشابكة بين الثقافتين لا يعتبر ذريعة لكسر "تابو" السفر الى فلسطين - اسرائيل، هذا التابو الذي تصاعدت آلياته الى حد استحالة مناقشته. ذريعتي - والواحد قد تخطى الستين - قرار قديم، منذ ايام الغزو الاسرائيلي للبنان. ففي تلك الأيام والليالي الموحشة، حينما كنت في بيروت ايام مواجهة الموت ومواجهة الذات، ما حصنّني ضد عدم الانسياق وراء قرارات ومواقف، قبل تمعنّها وتمحيصها ما لا يقتلني يقوّيني! التحقيق هل هذه حقيبتك؟ - نعم. وهل جميع ما فيها يخصك؟ - نعم. وهل رتبتها بنفسك؟ - نعم. ومتى كان ذلك؟ - مساء الأمس. ومنذ ذلك الوقت لم يلمسها احد؟ - لم يلمسها احد. وأين كانت الحقيبة طوال الوقت؟ - كانت في غرفتي. ولم يدخل احد الغرفة سواك؟ - لم يدخل الغرفة سواي. ولماذا تريد السفر الى اسرائيل؟ - لأقوم بعمل بحث للتلفزيون الهولندي. عن ماذا؟ - عن الحياة هناك. وهل ستذهب الى الضفة الغربية؟ - بالطبع. والى غزة؟ - بالطبع. والى اين ايضاً؟ - الى كل الاماكن، الى الجولان، والى الحدود اللبنانية في رأس الناقورة، والى الحدود الأردنية، والى القدس. وماذا ايضا؟ - سأزور المسجد الاقصى وكنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة القيامة في القدس. ... البنت المستجوبة شاحبة الوجه، لعلها في الثلاثين من العمر. ترتدي ثياباً سوداء، سترة سوداء وسروال اسود وبلوزة سوداء وحذاء اسود برقبة لم استطع تبين لون الجوارب. كنت انا الذي يجيب على الاسئلة. كنت اجلس على اريكة من الجلد الزائف في ردهة صغيرة في مطار امستردام. فخلال خبرة حياة طويلة في الاستجوابات - انا الشخص الذي يجيب على الاسئلة - تبينت انه منذ البداية عليّ ان استغل دراستي القديمة في المسرح، فالاستجواب ليس الا عملية مسرحية يتظاهر كل طرف فيها بغير ما يبطن. موقفي منذ البداية "اخرجته" بطريقتي حينما احضرت معي من المنزل عصاي التي ينتهي مقبضها برأس افريقية، اشتريتها ذات رحلة الى السودان. ميزة العصا انها تعطي لحاملها - ومن يتوكأ عليها - وضعاً مرهفاً، اقصد غامضاً ايضاً. فهي الرمز القديم للنبالة العامة لا يستخدمون العصي الأنيقة، كذلك فالعصا تعطي الاحساس بأن حاملها "مريض" او يعاني ألماً في ساقه. لذا توجهت مباشرة من دون ان أسألها الى الاريكة اياها. وبعد ان جلست، قلت بصيغة الأمر الواقع: "لا استطيع ان اقف طويلا"، وأشرت بغموض الى ساقي. كنت اريد ان اعطي نفسي احساساً بأني انا الذي "يخرج" المسرحية، على الأقل الجزء الذي يخصني! وهكذا تعمدت ان لا أقول "وسأزور ايضاً المعابد اليهودية"، مع اني وضعت زيارة معبد او اثنين في برنامج الرحلة. كنت بصراحة اريد ان اعطيها الاحساس بأني اتحدث معها من مركز قوة. لعلها كانت تنتظر ان اقول لها "وأيضاً المعابد اليهودية"، ولكني تجاهلتها. وماذا تفعل؟ بدأت هي بتكنيك آخر. - ماذا تقصدين بماذا أفعل؟ ومع اني فهمت السؤال الا اني اجبت بسؤال آخر. أقصد ما هو نوع عملك؟ - انا كاتب. ماذا تكتب؟ - هل تقرأين بالفرنسية؟ بانزعاج لا. - وهل تقرأين الاسبانية؟ بتشفي كتبي مترجمة الى هذه اللغات ومعي نسخة في الحقيبة في الحقيبة كتاب واحد تمت ترجمته…. … اشرت بعصاي الى حقيبتي. كنت قررت في آخر لحظة ان احمل معي نسخة مترجمة من بيض النعامة الى الفرنسية والاسبانية، تحسباً لهذا النوع من الاسئلة التي تم تحذيري منها مقدماً من الاصدقاء الذين زاروا اسرائيل من قبل. وحينما اكتشفت بأني نجحت في ازعاجها او هكذا تخيلت بأن أظهر لها تفوقي عليها، وبأن احولها من سائلة مستجوبة الى شخص يتلقى الاسئلة ويجيب عليها، وان اكشف لها جهلها باللغات وان اثبت لها تفوقي عليها، هي الاوروبية،. بلغتين اوروبيتين… اندهشت انا شخصياً من عمق العداء المتأصل داخلي من اي شخص "يستجوبني" الدهشة لاستمرار هذا العداء بكل هاته السنين! ... لكنها حاولت من جديد. بأي لغة تكتب؟ - بالعربية بالطبع. وانت تترجم كتبك؟ - بتعال حقيقي هذه المرة انا لا اترجم، هناك مترجم متخصص لكل لغة. وتبيع كتبك في المكتبات هل تريد ان تسخر مني؟ - استفزها بأن اشرح لها بصبر مفتعل وببطء انا لا ابيع كتبي هذا ليس من شأني، انه شأن الناشر والموزع. وهل كتبك المترجمة تباع في اسرائيل؟ - في الحقيقة لا اعرف. لكن في الوقت نفسه يهمني ان تباع كتبي في كل مكان في العالم. وماذا عن كتبك العربية، هل تباع في الضفة؟ - أتمنى ذلك. قامت تحمل معها جواز سفري الهولندي والذي يحمل اختام دخول وخروج بالعربية من مطار القاهرة. لاحظت انا ان رباط حذائها القبيح "مفكوك"، ناديت عليها متصنعاً الجدية ولافتاً نظرها الى هذا. تضرج وجهها غضباً او خجلاً؟ وتجاهلتني. اعرف اني، في داخلي، يتنازعني عاملان. اتمنى ان يمنعوني من السفر الى اسرائيل، فأرجع الى بيتي واكتب ما حدث، وانهي الموضوع. كنت سأحس براحة من تأجيل موعد المعركة الى اجل غير مسمى. العامل الآخر هو بالفعل اريد الذهاب للمرة الاولى الى فلسطين واسرائيل ايضاً، ان اشاهد وان اكتب. لو منعوني سأوفر على نفسي معركة - اعتبرها غير ضرورية - مع من ينصبون انفسهم ولاة "حسبة" خصوصاً من اهل اليسار! فلم يكد يخمد بعد غبار معركة "السفر الى فرنسا في موسم الاحتفال بمرور مئتي سنة على غزو نابليون لمصر" اذ سافرت الى فرنسا لسبب وحيد هو اقتناعي بحقي في اتخاذ قراري. بالاضافة الى ان حملة نابليون، مع كل سوءاتها كشفت حجر رشيد، ونفضت الغبار عن تاريخي الذي جهله اسلافي… الى جانب قناعات اخرى ليس هنا مجالها. ثم تأتي هذه الرحلة الى فلسطين - اسرائيل هذا هو الاسم الذي ارتضيته لنفسي والمعارك تدور في مصر والاردن حول التطبيع والمطبعين… الخ. وكنت سألت نفسي حينما وجه التلفزيون الهولندي الدعوة اليّ: "هل هذه الزيارة مهمة". والحقيقة انني لم اكتشف اهميتها إلا بعد ان وصلت الى هناك. لكن قراري بالذهاب كان سببه هو اقتناعي بحقي - مرة اخرى - في اتخاذ قراري. فلم يعد في العمر متسع، او بقية، لان يزدرد الواحد منا ما يعتقد بانه صواب، او حقه في ممارسة الصواب والخطأ من دون الخوف من الفرامانات، لأني - مثل بعض من افراد جيلي - أنادي بحق الحوار والتعددية على الاقل نظرياً!. وهكذا ذهبت عامداً متعمداً الى مطار امستردام في الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة الموافق الرابع والعشرين من شهر حزيران يونيو من العام 1998، متجهاً برجلي الى المكان الذي يجرى فيه التحقيق، اي الصالة المخصصة بشكل استثنائي لركاب طائرة "العال" الاسرائيلية المتوجهة الى تل ابيب والمفروض ان تغادر بعد ساعتين، والتي تحيط بها حراسة مسلحة واضحة على نقيض بقية الامكان في المطار. ها انا، في الواحدة والستين من عمري، وبعد ست عشرة سنة على تسللي من بيروت، ذات فجر كئيب متوجهاً في تاكسي - مع عدد آخر من المتسللين مثلي - بعد ان رتب المبعوث الاميركي - اللبناني الاصل - فيليب حبيب مغادرة ياسر عرفات واركان حربه وقادته و"الشباب" بيروت ولبنان كله الى المنافي الاخيرة، في اليمن والسودان وتونس واليونان وقبرص. ها آنذا سأدخل للمرة الاولى في حياتي ارض فلسطين، الى القدسوغزة وبيت لحم ورام الله ويافا وعكا وصفد، والحدود المغتصبة من سورية ولبنان والاردن، الى المستوطنات والكيبوتزات، الى اطلال دير ياسين وكفر قاسم… لكن قبل كل ذلك ارغب في اشباع رغبتي في رؤية العلم الفلسطيني طالما حملناه علماً وملصقات علقناها، على سياراتنا وابواب بيوتنا ومنافينا يرفرف مرة اخرى فوق ما تطلق عليه الادبيات السياسية اسم "مناطق السلطة الفلسطينية". فأنا مثل الملايين من ابناء جيلي تابعنا النكبة ثم حرب السويس 1956 وهزيمة حزيران يونيو 1967 واحتلال قطاع غزة والضفة الغربية والاستيلاء على القدس الشرقية… ثم ظهور حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية… المشاوير والتعرجات الطويلة المعقدة المختلفة، "اقواس" الانتصارات والهزائم وحرب 1973 وكامب ديفيد، والاجتياح الاسرائيلي للبنان في حزيران 1982 وحصار بيروت التي كنت اعيش واعمل فيها آنذاك… تدفعني رغبة عارمة في ان ارى المشهد الاخير، كما يقول اهل المسرح "البروفة الجنرال" قبل اعلان الدولة الفلسطينية على بعض ارض فلسطين والتي ستكون عاصمتها القدس… الشرقية! قبل ذلك ذهبت الى الفلسطينيين في منافيهم في تونس والسودان واليمن. تابعت مع الملايين وفدهم في مدريد. ثم مفاجأة اوسلو. وتناقشت مثل غيري مع اوسلو وضدها. وشاهدت في التلفزيون استقبال غزة والضفة لأبي عمار و"صحبه" والشباب …الخ. لهذا شكرت الرب لان الدعوة جاءت من غير جهة اختصاص، كما يقول اهل الحذق، جاءت من التلفزيون الهولندي الذي اتعامل معه من الخارج لكي ارافق المجموعة المسافرة الى اسرائيل، وان اشارك بالاعداد لمادة عما يحدث الآن، وعن توقعات المستقبل. طلبي الذي وافق التلفزيون عليه، من ضمن حزمة من الطلبات، هو ان اقيم في يافا في منزل صديقي الهولندي الذي يعمل في الاممالمتحدة، في قسم المساعدات للدول المانحة في الاراضي المحتلة، كنت ارغب ان اعيش لمدة اسبوعين مع فلسطينيين في يافا القديمة، حيث بيت صديقي، وزوجته واولاده… وليس في تل ابيب بالتحديد. * روائي وكاتب مصري مقيم في هولندا