قد يستغرب القارئ للوهلة الأولى طرح هذا السؤال، فالظاهر ان من المفروغ منه اليوم ان حياة الافكار اسئلة وأجوبة، لا تعرف الثبات والاستقرار، وانها، شأن باقي الامور، لا تفتأ تزول. وعلى رغم ذلك فهناك ربما امور تشهد على عكس ذلك. صحيح ان هناك مجالات يعرف فيها الفكر تقدماً متواتراً كالمجال العلمي حيث ينبذ الجديد القديم، وحيث يشكل التاريخ تقدماً مضطردا يعدل فيه اللاحق السابق. الا ان هناك مجالات اخرى يبدو ان من الصعب فيها الحديث عن التقدم ذاته، بل حتى عن التبدل. السنا نكرر الاسئلة ذاتها التي طرحها الاقدمون في مجال الاخلاق والميتافيزيقا؟ السنا نتساءل حول الحرية والمسؤولية والقدر والمصير؟ فما الذي يفصلنا عمن سبقنا في هذه المجالات؟ محاولة للجواب عن هذا السؤال، ربما وجب التمييز مع التوسير وجماعته بين الاشكالات والاشكاليات. الاشكالات هي المشاكل بالمعنى المعهود. غير ان هذه المشاكل تجد حياتها داخل اطار نظري، وشبكة مركبة تسمى الاشكالية. لو استعرنا عبارات مستمدة من لغة الاقتصاد لقلنا ان كانت المفاهيم تشكل قوى الانتاج النظري وكانت النظريات والمشكلات علاقات الانتاج النظري، اي العلاقات التي تنشأ بين المفاهيم اثناء الانتاج النظري، فإن هذه وتلك، تشكلان نمط الانتاج النظري. هذا النمط هو الاشكالية، وهذه الاشكالية، ككل نمط انتاج تعرف تبدلاً متواتراً. فالمشكلات ذاتها، والمفاهيم عينها اذا دخلت في اشكالية معينة تتخذ معنى بعينه، الا انها ان غيّرت الاشكالية تغيرت مدلولاً وقيمة. فأن تسأل ما هي الطبيعة؟ داخل الفيزياء الغاليلية ليس هو ان تسأل، كما يفعل هايزنبرغ، عن "الطبيعة في الفيزياء المعاصرة؟". السؤال لفظاً هو هو، لكنه مخالف معنى، والأهم مخالف جواباً. ربما بهذا المعنى امكننا ان نتحدث عن "تقدم" او على الأقل عن تحول، وربما عن قطيعات وانفصالات، في تاريخ الافكار. ذلك اننا ان كنا نبدو ونلوك الالفاظ ذاتها، والمفاهيم عينها، ونتساءل حول القضايا ذاتها ونطرح المشاكل عينها، فان ذلك يتم داخل اشكاليات مخالفة، بل اشكاليات متخاصمة مضاد بعضها لبعض. ان كان يبدو إذن ان تاريخ الافكار يعرف المشكلات عينها، فإن الاشكاليات والمرجعيات الفكرية ما تفتأ تتبدل، وما ذلك إلا استجابة لتبدل جبهات الصراع النظري الذي هو منبع حياة الافكار والاسئلة، مثلما ان الصراع "العملي" منبعٌ لحياة التاريخ.