الأرجح أن القوّة الخارقة لإرادة الإنسان في وجه تحديات مستعصية، والاستناد إلى عقل لا يكف عن التجوال في الكون والزمان، يتنافسان مع منجزات هائلة لعلم الفيزياء الحديث لا تقارن إلا بعظماء العلماء، في تسطير سيرة عالم الفيزياء النظرية البريطاني ستيفن هوكينغ (1942- 2018) الذي رحل عن العالم أمس. هل يكفي القول إنه عاش ما يتخطى نصف قرن متحدياً ظلّ الموت الذي نشرته الجينات فوق جسده بشلل توقع الأطباء أن يميته في سنتين، لكنه عاش عقوداً مستنداً إلى عزمٍ لا يلين، وعقلٍ مشع بذكاء فائق؟ ألم يصل تحديه ظلَّ الموت المحمول بالجينات، إلى حدّ أنه «أرغم» تلك التي تسمّى «الثقوب السود»، على الإشعاع بخيوط تظل تحمل اسمه ربما إلى الأبد؟ قبله، جزم العلماء بأنّ قوة الجاذبية الهائلة في «الثقوب السود» تقبض على الأشياء كلها، بما فيها الضوء الذي تحبسه في داخلها، فلا تراها العين. وبرهَن أن تلك القوة ذاتها تتفاعل بطرق فيزيائيّة غير تقليدية في المدى القريب منها، فتَصدر عنها أشعة كهرومغناطيسة حارة، ولذا سُميت باسمه. استخدم هوكينغ الفيزياء غير التقليدية (تسمّى «فيزياء كمومية») في دراسة تلك الظاهرة. وعلى رغم أن فيلماً هوليوودياً عنه ظهر بعنوان «نظرية لكل شيء» (2014، إخراج جيمس مارش)، فإنه لم يستطع إنجاز تلك النظرية. لعلها إحدى الغصَّات في حياة من اشتهر بتحديه للمستعصي. لم يتوصل إلى صوغ نظرية تجمع فعليّاً نظريات الفيزياء الكمومية، وهي تقدم تفسيرات عميقة لعمل المادة والزمن على مستوى ما تحت الذرة (وضع أسسها علماء من بينهم ماكس بلانك وإرفينغ شرودنغر وفيرنر هايزنبرغ)، وفيزياء النسبية التي وضعها آلبرت آينشتاين لتفسير المادة والزمان على المستوى الكوني، إضافة إلى الفيزياء التقليدية تماماً التي وضعها العالم إسحق نيوتن. لا يقارن هوكينغ إلا بالعمالقة من وزن آينشتاين (كان السبب في تخصصه بالفيزياء النظرية)، ونيوتن الذي شغل الكرسي الأكاديمي نفسه في الرياضيات في جامعة كامبريدج لثلاثين سنة. وفي كتابه الذائع الصيت «موجز لتاريخ الزمان»، وصف هوكينغ الفارق في مفهوم الزمان بين آينشتاين ونيوتن، بالقول إن الأخير وضع ساعة للكون تشير إلى الزمن ذاته في الكون كله، فيما ملأ آينشتاين الكون بساعات لكل منها زمن خاص، لأنه ربط الزمن بسرعة الضوء، ما يجعل مسار الزمان مرتبطاً بسرعة من يراقبه بالنسبة إلى الضوء! وكذلك أعطى وصفاً مبسطاً لمفهوم الزمن في نظريات الفيزياء الكمومية، مشيراً إلى أن الفيزياء كلها تفكر بالزمان بطريقة قريبة مما يختبره البشر في معاشهم، أما الكمومية فهي تفكر بالزمن وكأنه شيء خيالي، زمن يشبه ما يحدث في الأساطير، فيكون تداخل الماضي والحاضر والمستقبل فيه، ويكون الانتقال بينها (بل انتفاؤها)، كالتزلج على الماء. قد يصلح ذلك مدخلاً لفهم أحد أعمق إنجازات هوكينغ، وهي أعماله المتصلة بال «بيغ - بانغ»، أو ولادة الكون من نقطة محددة في الزمان والمكان. وانطلاقاً من فهمه معادلات الرياضيات المتصلة بال «بيغ- بانغ»، رأى هوكينغ أن الكون حدث فريد (Singularity)، لكن من المحتمل أن تحدث «فرادات» مشابهة له، ما أوصله إلى القول بوجود أكوان متعددة أيضاً. ودوماً، حضّ هوكينغ البشر على التواضع في النظر إلى وجودهم، معتبراً وجود حضارات ذكية في الكون أمراً مفروغاً منه، بل اعتبر أن وصولها إلى البشر يعني أيضاً تفوقها عليهم في الذكاء. مقاطعة إسرائيل وعلى رغم اشتهاره بالإلحاد، تراجع قليلاً في كتابه «المخطط العظيم»، معتبراً أن الكون لا يُفهم إلا بالتسليم بوجود ذكاء متسامٍ وضع له قوانينه المعقدة التي ما زال البشر يسعون إلى فك أسرارها. وعام 2013، أبرزته جريدة «الغارديان» البريطانية في مقال بعنوان «هوكينغ يضرب إسرائيل في موضع موجع: العلم». وتعلّق الأمر آنذاك برفضه دعوة من الرئاسة الإسرائيلية لمؤتمر علمي رداً على حملة المقاطعة الأكاديمية للدولة العبرية. وأوضح هوكينغ أنه حتى لو ذهب إلى إسرائيل، فلسوف يتحدث عن رفضه تعاملها مع الحقوق العادلة للفلسطينيين.