هدف هذا المقال تبيان ثلاثة أمور: أولها؛ أن الهاجس الإبستمولوجي ظل على مر السنين يتبوأ منزلة خاصة في فكر محمد عابد الجابري. ثانيها؛ أنه ما كان اهتمام الجابري بالإبستمولوجيا من جنس «الإبستولوجيا للإبستمولوجيا». فما كانت هي مقصودة لذاتها، وإنما تُقُصِّدَتْ لغاية. وهذه الغاية هي نقد العقل العربي مشروع الجابري الأساس. فإذن الغاية: نقد العقل العربي، والوسيلة: المنهج الإبستمولوجي. وذلك بما وشى عن توظيف وسيلي للإبستمولوجيا في فكر الجابري. ثالثها؛ أن الجابري ما اهتم بالإبستمولوجيا مطلق الإبستمولوجيا، وإنما اهتم بما يخدم مشروعه، فكان أن يَمَّمَ نحو الإبستمولوجيا الفرنسية، أولاً، ونحو مفكرين إبستمولوجيين بعينهم سنرسم ملامحهم في هذه المداخلة ثانياً، ونحو مفاهيم إبستمولوجية مخصوصة. بداية، يمكن القول: إن الهاجس الإبستمولوجي ما شكل هدفاً في حد ذاته، بالنسبة للأستاذ الجابري، بل اتخذ طابعاً إجرائياً ووظيفياً حاول من خلاله الاشتغال على مشروع نقد العقل العربي الذي انتصف نصفين: 1- من جهة؛ ثمة: تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي. وهما المؤلفان اللذان استهدفا النظر في الآليات المنطقية والمعرفية التي أعملها العقل العربي القديم. مما يؤسس بذلك لإمكانية إعمال منهج النظر الإبستمولوجي أو البحث عن النظم المعرفية التي أسست للعقل العربي. 2- ثم السياسة والأخلاق كموضوع للعقل العملي. إذا ما نحن أخذنا الشق الإبستمولوجي - وهو موضوع هذه المداخلة - فإننا نجد أن تعامل الجابري الوسيلي مع فلسفة العلوم قد تجلى، بحسب اعتبار الأستاذ سالم يفوت، في مظاهر عدة. من أبرزها أن الأستاذ الجابري ما خصص سوى مؤلف واحد لفلسفة العلوم: وهو الكتاب الموسوم باسم «مدخل إلى فلسفة العلوم» (1976)، وهو مؤلف يقع في جزءين. ثم إنه ما لبت أن قَفَّى على أثره بكتاب «نحن والتراث» (1980)، الذي وإن لم يكن مؤلفاً في الإبستمولوجيا، بالمعنى الحصري للكلمة، إلا أنه كان بمثابة جسر وصل هموم الإبستمولوجيا النظرية بهموم التراث العملية. فما هي أبعاد تجليات الممارسة الإبستمولوجية في كتابات الأستاذ الجابري؟ وكيف تم عنده توطين بعض المفاهيم الإبستمولوجية، المستقاة من حقول معرفية غربية، في قراءة التراث الفلسفي العربي الإسلامي؟ المرجعيات ليس يمكن استيعاب ظهور التفكير الإبستمولوجي في المغرب، أوائل السبعينات، إلا من خلال المرجعيات والمصادر الغربية. هذه التي شكلت جهازاً مفاهيمياً أصبح أكثر تداولاً في مجالات مختلفة من الفكر الفلسفي المغربي المعاصر. مثلما أنها اعتمدت كآليات وكمفاهيم إجرائية لتحليل بعض القضايا المتعلقة بالتراث الفلسفي. وذلك على نحو ما فعله محمد عابد الجابري بصفة مخصوصة. الأمر الذي جعل مفاهيم الإشكالية الإبستمولوجية تظهر كعناصر مؤسسة ضمن الإشكالية التراثية. فما هي العوامل التي شكلت الإطار النظري لظهور التفكير الإبستمولوجي في المغرب؟ وكيف تمت تبيئة المفاهيم والأدوات المستقاة من الحقل الإبتسيمي الغربي داخل فضاءات معرفية في الثقافة المغربية بعامة وفي مجال التراث تحديداً. الحق أن أهم اللحظات التي شكلت حجر الزاوية بالنسبة إلى الممارسة الإبستمولوجية في الحقل المعرفي بالمغرب بعامة وتعامل الجابري الوسيلي مع الإبستمولوجيا بخاصة، إنما تتجلى في أعمال الإبستمولوجي الفرنسي روبير بلانشي حول مشروع «عقلانية معاصرة» في مقابل «العقلانية الكلاسيكية». وقد انتقد في الوقت ذاته «الفلسفة الواقعية» من خلال مؤلفين: أولهما كتاب «العلم الفيزيائي والواقع» الذي صدر عام 1948. وثانيهما مؤلف « العلم المعاصر والعقلانية» الذي صدر عام 1967. حاول بلانشي من خلال مؤلفاته تأسيس مشروع لبناء فلسفة عقلانية جديدة، عقلانية وظيفية أو عقلانية رياضية، تأخذ في الاعتبار القيم المعرفية الجديدة للثورة العلمية المعاصرة. هذا وقد تميز الموقف العقلاني الجديد، لدى بلانشي، بانتقاده تيارات فلسفية ثلاثة متعارضة أراد أن يكون تجاوزاً لها جميعها: العقلانية الكلاسيكية والواقعية والوضعية. وفي انتقاده لهذه التيارات الفلسفية اعتبر أنها لا تمثل الفلسفة المطابقة لعلم هذا العصر. والحال أنه مما لا شك فيه استحالة فهم مشروع بلانشي إلا ضمن محاولة الفلسفات العقلانية المعاصرة إعادة النظر في إشكالاتها العامة حتى تتوافق مع نتائج الثورة العلمية. ولعل حضور فلاسفة أمثال باشلار وبرانشفيك في مشروع بلانشي، قراءة وتأويلاً، وما تشترك فيه من مبادئ، نبه في شكل واضح إلى أن فلسفة بلانشي لم تكن موقفاً فلسفياً منعزلاً، وإنما كانت تتقاطع مع لحظات مناظرة لها في الحقل الفلسفي والإبستمولوجي. لحظة التأريخ للعلوم : شكل الاهتمام بعلاقة تاريخ العلوم والإبستمولوجيا أهمية خاصة، وذلك لما لهذين الميدانين من علاقة تقاطع وانسجام من حيث الموضوع والأهداف معاً. فتاريخ العلوم والإبستمولوجيا يدرسان معاً المعرفة العلمية، وتاريخ العلوم يمارس دائماً مصحوباً بتصور إبستمولوجي معين. وحيث يكون من اللازم لاستخلاص القيم الإبستمولوجية للمعرفة العلمية وإبرازها أن نعتبر تاريخ هذه المعرفة، فإنه يصبح من الضروري للابستمولوجي أن يعتمد على تاريخ العلوم. ومن بين المشاريع التي عرفت انتشاراً واسعاً في هذا المجال يمكن استحضار، على سبيل المثال لا الحصر، فلسفة غاستون باشلار. وقد عايش هذا المفكر العلمي الفذ الثورة العلمية التي بدأت منذ أواخر القرن 19 وخلال القرن العشرين، مثلما عاين الهزة التي أحدثتها في المفاهيم العلمية والفلسفية على حد سواء. وقد لاحظ بعد ذلك أن هناك فرقاً في التقدم الحاصل في المجالين: فهناك، من جهة، حركية في تاريخ العلم، يقابلها، من جهة أخرى، سكون في تاريخ الفلسفة. وقد عمل باشلار على إبراز القيم المعرفية التي ساهمت في تجاوز التصورات المطلقة في الفلسفة العقلانية الكلاسيكية. إذ لم تصبح المعرفة عبارة عن قوالب ومقولات عقلية ثابتة يمكن استنباطها خارج الزمن، بل انخرطت في الديمومة والتاريخ وأصبحت قابلة للتغير بمقتضى التحولات التي طرأت على العلوم. والحق أن المشروع الباشلاري، باستعماله بعض المفاهيم الأساسية التي أحدثت هزات على مستوى تاريخ العلوم شأن مفهوم «التجاوز» و«القطيعة الإبستمولوجية»، كان محط اهتمام وتأويل واسع من طرف معاصريه، مثل المفكر الماركسي ألتوسير الذي استعار مفهوم «القطيعة» واستخدمه من أجل فهم فكر ماركس وتطويره. ذلك أن قراءة ألتوسير لماركس طرحت إبراز المفاهيم المكونة للإشكالية التجريبية أو الاختبارية، للنقد والمراجعة، فالغالبية العظمى من الفلسفات قد استغلت العلوم لأهداف تبريرية تخرج عن أهداف الممارسة العلمية. والحال أن التأويلات الفلسفية لنتائج العلوم بغاية التدليل على بعض القيم الخارجة عن مجال العلم لا تعكس الحقيقة العلمية كما هي بل تعكس منها أعراضاً إيديولوجية عملية. ومن مهمات الفلسفة، بحسب ألتوسير، رسم الحدود بين ما هو للإيديولوجيا، من جهة، وما هو للعلم من جهة أخرى؛ أي إبراز صور وألوان تسرب الإيديولوجية النظرية والعملية إلى الممارسة العلمية، وفهم العلماء لما يفعلونه. لحظة ميشال فوكو: تميزت أعمال ميشال فوكو بأهمية بالغة في الفلسفة المعاصرة، وذلك على اعتبار أنها كانت تمثل «آخر الاتجاهات الفلسفية التي انتهى إليها الفكر الإنساني بعد تعلق طويل باتجاهين : اتجاه إلى الذات المشخصة واعتبارها محور التأمل الفلسفي، واتجاه مضاد لا يعنى بغير الظواهر المحسوسة ويؤدي إلى ظهور الفلسفة الوضعية ثم الوضعية المنطقية بصورها المختلفة»؛ فأهمية فوكو تكمن في استحداثه تساؤلاً فلسفياً جديداً عن البنية المعرفية السائدة في حقبة معينة والتي تبرر ظهور العلم والتفلسف في تلك الحقبة، إذ اعتبر كتاب «الكلمات والأشياء» أول تطبيق للاتجاه البنيوي في مجال البحث الإبستمولوجي. وبه أصبحت البنيوية سيدة البحث الفلسفي. ومن بين المفاهيم التي شكلت أهمية خاصة في كتاب «الكلمات والأشياء» هذا مفهوم «الإبستميي» Epistémé الذي يكشف عن الإمكانات والشروط التاريخية لظهور المعارف ودراستها في صورها التجريبية وأن ما تدرسه «الإبستميي» هو «مجموع العلاقات التي بإمكانها أن توجد في فترة معينة بين الممارسات الخطابية التي تفسح المجال أمام أشكال إبستمولوجية وعلوم...». وعليه، فالإبستمي، وفق تحليل فوكو، هي مجموع العلاقات التي يمكننا الوقوف عليها في فترة ما بين العلوم حينما نحلل مستوى انتظاماتها الخطابية. قد نقف هنا على نوع من التماثل بين الإبستمي والبنية، وبخاصة في نقطة العلاقات. فالإبستيمي ليست بنية ساكنة. إنها متغيرة وذلك لعلاقتها بالتاريخ، فكل مرحلة تاريخية محكومة بإبستمي معين، تقطع مع سابقتها وتكون مقدمة لإبستمي لاحقة، لذلك فإنها «ليست شكلاً ساكناً ظهر يوماً ليختفي فجأة، بل هي مجموعة من الانقسامات والتفاوتات والانزياحات والتطابقات المتحركة باستمرار والتي تنشأ ثم تنحل». وهكذا يتبدى لنا من خلال إبراز مصادر الفكر الإبستمولوجي بالمغرب أن لحظات تشكل الخطاب الإبستمولوجي تتحدد من خلال المناحي الجديدة في الفكر الغربي وعلى أساس المرجعيات التي أطّرت عمليات إنتاج التصورات والتفكير في المفاهيم. وهو الأثر الذي وسم بميسمه الفكر المغربي ابتداء من السبعينات. إن صورة مواءمة وتكييف الجهاز المفاهيمي الغربي مع خصوصيات الفكر العربي المعاصر تعكس الجهود التنظيرية لتوطين المفاهيم ضمن سياقات فكرية جديدة. فكيف تمت تبيئة المفاهيم والأدوات المستقاة من الحقل الإبتسيمي الغربي داخل حقول ومجالات معرفية في الثقافة المغربية بعامة وفي مجال التراث تحديداً؟ توطين مفاهيم الإبستمولوجيا دشن محمد عابد الجابري البحث الإبستمولوجي في بداية السبعينات من خلال مؤلفه «مدخل إلى فلسفة العلوم» في جزءين عام 1976. وقد يضم مجموعة من النصوص والأبحاث التي قام بترجمتها في مجال إبستمولوجية الرياضية والفيزياء. هذا وقد ركز الجابري على أهمية الدراسات الإبستمولوجية بالنسبة إلى تطور الفلسفة. وذلك: «باعتبار أن البحث في قضايا متعلقة بتعريف العلم وبيان موضوعه ومناهجه وغايته، وتحديد علاقاته بغيره من العلوم ...، هو من جملة الأبحاث التي تنتمي في شكل أو آخر إلى عالم الفلسفة. ومعروف كذلك أن عزل شيء ما عن الفلسفة لاتخاذه ميداناً لبحث مستقل، لهو من أصعب الأمور، خصوصاً إذا كان موضوع هذا «الشيء» ينتمي إلى عالم الفكر والنظر، لا إلى عالم المادة والواقع. ذلك لأن من خصائص الفلسفة أنها تظل دوماً تلاحق موضوعات وتطاردها في بيوتها الجديدة، فتتلون بلونها، وتتطور بتطورها وتغتني بتقدم البحث فيها, إن هذا بالضبط هو سر بقاء الفلسفة حية على الدوام، متجددة باستمرار». يترجم هذا الاهتمام الخاص بأهمية استيعاب الفلسفي للعلوم عن المكانة التي خصصها الجابري في جزء كبير من كتابه لنصوص روبير بلانشي حول «المنهج التجريبي» فضلاً عن الإبستمولوجية التكوينية لجان بياجي، وفلسفة النفي عند باشلار ... فالفلسفة، بحسب الجابري، كانت تستند دوماً إلى علوم عصرها لتستوحي منها قضاياها ومبادئها. وقد عبر في موضع آخر عن الإكراهات التي يطرحها تخلف الدراسات في الوطن العربي عن ركب مثيلاتها في الغرب في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى «تحديث العقل العربي» و«تجديد الذهنية العربية» . وقد أكد بذلك أن هناك: «رؤية موجهة، سواء في العرض أو التحليل أو في النقد وإبداء الرأي، رؤية تستمد مقوماتها ومؤشراتها من الفكر التقدمي المعاصر، الفكر الذي يكرس العلم والمعرفة العلمية لخدمة الإنسان، لتطوير وعيه، وتصحيح رؤاه». هذا وقد اعتبر الأستاذ سالم يفوت أن حضور هذه الرؤية الموجهة هو ما يؤسس التعامل الوظيفي والوسيلي والغرضي مع الإبستمولوجية لدى الجابري. وقد تجلى ذلك في الكيفية التي جمع بها بين اهتمامه الأصلي بالفلسفة الإسلامية وانشغاله بفلسفة العلوم. وهي كيفية تقوم، أساساً، على اعتبار أن هذه تمدنا بمفاهيم وأدوات إجرائية تساعد على قراءة التراث قراءة معاصرة واستثمار عناصره الإيجابية في تطلعاتنا الراهنة. إذا ما نحن حققنا هذا الأمر، ألفينا أن اهتمامات الجابري الإبستمولوجية تأتي كمقدمة لإبراز الملامح التوسيلية لاختياره الفكري، فإن هذا الأمر يبدو جلياً في تعامله مع جملة من المفاهيم الكاشفة لطبيعة المشروع الذي انتدب نفسه للدفاع عنه. وهو المشروع الذي يروم، في جملته، الدفاع عن الحداثة كأفق في النظر والعمل المفتوح على مكاسب التاريخ المعاصر، وذلك انطلاقاً من مدخل نقد التراث ونقد آليات الفكر السائدة في الثقافة العربية. ولعل مقدمة مؤلف «نحن والتراث» تبرز المقاربة المنهجية للتراث كما يقترحها المؤلف حيث يستثمر مجموعة من المفاهيم الإبستمولوجية شأن مفهوم «القطيعة» (التخلي عن الفهم التراثي للتراث) وإحداث قطيعة مع بنية العقل العربي في «عصر الانحطاط». والمفهوم نفسه نجده في الدراسة التي ساهم بها في ندوة «ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي» حيث أعلن عن وجود قطيعة إبستومولوجيا بين مدرستين فلسفيتين، إحداهما مغربية ويتزعمها ابن رشد، والثانية مشرقية ويتزعمها ابن سينا. إضافة إلى اقتراحه قراءة موضوعية للتراث تتوسل بفصل الموضوع عن الذات باعتبارها عملية ضرورية تتمكن الذات بواسطتها من استرجاع فاعليتها الحرة لتشرع في بناء الموضوع بناء مستأنفاً وفي أفق جديد. إن اختلاف المنطلق الإيديولوجي للقراءات التي مورست على نصوص التراث لا يمنع، مع ذلك، من وجود وحدة بينها من حيث الفعل العقلي المنتج لها جميعاً حيث نقرأ في نحن والتراث: «ما يهمنا من عرض القراءات السائدة للتراث، في الفكر العربي المعاصر، ليست الأطروحات التي تقررها أو تتبناها أو تكتشفها هذه القراءة أو تلك، وإنما يهمنا فيها جميعاً طريقة التفكير التي تنتجها، أي الفعل العقلي فهو وحده الذي يمكن أن يكتسي الصبغة العلمية ويمهد الطريق، بالتالي لقيام قراءة علمية واعية». يبرز الجابري، إذن، أن النقد الذي يبدو ضرورياً هو نقد معرفي وليس نقداً إيديولوجياً، فإذا كان هناك عائق إبستمولوجي يتمثل في الرجوع إلى سلف ما، على رغم اختلافه، فهذا العائق لا يمكن الوقوف على حقيقته إلا بنقد معرفي. هناك فعلان عقليان تتحدد من خلالهما علاقة المعرفة بالإيديولوجية: الفعل العقلي الأول هو ما ينبغي لنا من أجل فهم علمي للتراث أن نقطع مع منهجه، هو الفعل الصادر عن العقل العربي في واقعه الراهن، وهو ما يصفه الجابري إذ يتحدث عن: « بنية ساهمت في تشكيلها عناصر متعددة على رأسها أسلوب الممارسة النظرية النحوية والفقهية والكلامية التي سادت في عصر الانحطاط، الأسلوب الذي قوامه القياس منهجاً علمياً». أما الفعل العقلي الجديد الذي يجعل الذات هي التي تحتوي التراث وليس العكس، فهو يصدر عن منهج جديد يعتمد نزعة نقدية كما كشف عنها من خلال مشاريع كل من ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، وذلك: «لأنهم جميعاً ينطلقون، كل في ميدانه وبحسب نوع اهتمامه، من نقد أبستمولوجي لطريقة التفكير السائدة ومبادئها المؤسسة ... ومن نزعة عقلانية، لأن البديل الذي طرحوه كان بديلاً عقلانياً... مفاهيم علمية تحرر العقل من سلطة اللفظ وسلطة الأصل، مفاهيم الاستقراء والاستنتاج والكليات والمقاصد وهي مفاهيم تشكل مع مبدأ السببية بنية عقلية أخرى هي ذات البنية التي قام عليها الفكر الحديث في أوربا ولا زالت تؤسس التفكير العلمي إلى اليوم». واضحة هي إذن منهجية الجابري في قراءة التراث. انطلقت دراسته الإبستمولوجية للتراث العربي من إدراكه لمشكل رئيس في الفكر العربي الإسلامي، وهو مشكل القياس: قياس الغائب على الشاهد... هذا العنصر الإبستمولوجي في بنية الفكر العربي هو الذي يفسر في رأيه خلل هذا الفكر وتخلفه، بغض النظر عن الأساس العلمي الذي ينبني عليه مبدأ القياس... ويتضح ذلك جلياً في طرحه مقاربة منهجية في مقدمة كتابه «نحن والتراث»، وأيضاً في بعض صفحات «التراث والحداثة» وعلى فقرات من مقدمات أجزاء «نقد العقل العربي» يتطرق فيها باختصار إلى بعض المفاهيم المعرفية مثل «البنية» و «الإبيستيمي» و «القطيعة» و «الذات» و «الموضوع»... كما يمكن الوقوف على بعض التفصيل في ما قاله عن مقاربته المنهجية المؤلفة من ثلاث مقاربات: بنيوية وتاريخية وإيديولوجية. والحال أنه يتبين منذ الوهلة الأولى أنه لا يمكن أن نشكل مادة متكاملة عن التصور الإبستمولوجي النظري، بل يمكن ملامسة عُدة نظرية تأتي كمقدمة لإبراز الملامح الوسيلية أو الأداتية لاختياره الفكري. وهذا الأمر يبدو جلياً في تعامله مع جملة من المفاهيم الإبستمولوجية الكاشفة لطبيعة المشروع الذي انتدب نفسه للدفاع عنه، هذا المشروع الذي رام، في جملته وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، الدفاع عن الحداثة كأفق في النظر والعمل المفتوح على مكاسب التاريخ المعاصر، وذلك انطلاقاً من مدخل نقد التراث ونقد آليات الفكر السائدة في الثقافة العربية. هكذا رسم الرجل مساراً تحديثياً للبحث العلمي في ميدان التراث وإعاد تأسيسه على قواعد ومناهج جديدة. ومن ثمة رام الربط بين هموم الإبستمولوجيا وهموم التراث. * كاتب مغربي.