اذا كان هناك شيء اسمه "مبدأ كلينتون" فالارجح ان يكون اساسه التدخل متأخراً ومرغماً. كل رئيس اميركي له مبدأ اشتهر به منذ مونرو ومبدأ منع اوروبا من التدخل في شؤون الاميركيين. وفي ايامنا وكان "مبدأ ترومان" احتواء الشيوعية، و"مبدأ كارتر" اعتبار الخليج مصلحة حيوية للولايات المتحدة، و"مبدأ ريغان" في مكافحة امبراطورية الشر، اي الاتحاد السوفياتي، و"مبدأ بوش" التعددية العالمية، كما في اصراره على العمل ضد صدام حسين تحت لواء الاممالمتحدة. كلينتون، الهارب من الخدمة في فيتنام، قد يكون بحكم منصبه اليوم "القائد الاعلى" للقوات المسلحة الاميركية، الا انه لا يزال يتصرف بعقلية من يرفض الحرب، فاذا وجد ان لا مفر من التدخل فهو يفعل ذلك بأقل قوة ممكنة، ثم يزيد شرط بوش عن تعددية القرار والمسؤولية. ولعلّ موقفه من البوسنة أفضل مؤشر على سياسته هذه، فهو تدخل متأخراً وبناء على الحاح الحلفاء، ثم وضع موعداً للانسحاب قبل ان تصل القوات الاميركية الى البوسنة، مع انه لا بد ادرك ان الالتزام بذلك الموعد مستحيل، وكان التدخل ضمن أضيق حدود ممكنة، فاذا لم تستطع القوة الاميركية احلال السلام، فانه يبدو قانعاً بمنع تجدد الحرب... في البوسنة أو غيرها. الرئيس بمبدأه هذا أقرب الى الشعب الاميركي من وزيرة خارجيته، فالسيدة مادلين أولبرايت تحدثت عن سياسة قوامها "تعددية قرار هجومية" وحاولت تثقيف الاميركيين في جولات داخلية ومحاضرات عن اهمية الدور الاميركي حول العالم، وهي مهمة مستحيلة، فالطلاب الاميركيون على سبيل المثال، قاموا بثورة على حكومتهم في اواخر الستينات لم تنته الا عندما قتل بعضهم برصاص الحرس الوطني. اما اليوم، فاستفتاء اجرته جامعة كاليفورنيا اخيراً أظهر ان 27 في المئة فقط من الطلاب الجامعيين الاميركيين يهتم بالسياسة أو يعتبرها مهمة. وهكذا ففي حين ان العالم الخارجي يرى الولاياتالمتحدة "قوة لا غنى عنها" في الشؤون الخارجية، فان الاميركيين انفسهم لا يرون ذلك. والامر لا يقتصر على الطلاب فقد اظهر استفتاء ان 48 في المئة فقط يؤيدون تمديد الوجود العسكري الاميركي في البوسنة، بل ان 45 في المئة فقط يؤيدون تدخلاً عسكرياً ضد العرب اذا هاجموا اسرائيل. وفي مقابل هذه أيد 79 في المئة من النخب الاميركية التمديد في البوسنة، و74 في المئة التدخل عسكرياً ضد العرب. ولن احاول تعريف هذه النخب الاميركية حتى لا اتهم باللاسامية، ولكن الاحظ ان بعض رموزها قال ان "الحلفاء" لا يستحقون اسمهم، وان "الاسرة الدولية" غير موجودة في الواقع، ثم انتقد فرنسا "الحليفة" وروسيا "الشريكة"، والعرب كافة، لرفضهم السير مع الولاياتالمتحدة في ضربة ضد العراق. النخب المؤيدة لاسرائيل تعارض صراحة تعددية القرار، على طريقة بوش وكلينتون، وتصر على ان تمارس الولاياتالمتحدة "فردية القرار" عندما تتعرض مصالحها الحيوية للخطر، ثم تعطي هذه النخب نفسها حق تعريف هذه المصالح، فاذا قرأنا بين السطور نجد ان كل "مصلحة" اميركية هي في الواقع مصلحة اسرائيلية، من الاحتواء المزدوج للعراق وايران، الى معاقبة كوريا الشمالية خشية ان تصل صواريخها الى ايدي العرب والايرانيين. وقد تحاول هذه النخب استفزاز الرئيس بالقول ان الاحتواء المزدوج اصبح "ممسحة مزدوجة" وانه لم ينجح ليس لانه فاشل اصلاً، بل لان الادارة لم تنفذه بحماسة كافية. ولعل الرئيس كلينتون يدرك في قرارة نفسه ان التدخل الخارجي يحتاج الى فردية القرار، الا انه يصر مع ذلك على تعددية القرار أو المسؤولية لانه ضد التدخل اصلاً. والعراق يظل مثلاً واضحاً، فالرئيس بوش جمع العالم وراءه، وعمل تحت مظلة الاممالمتحدة، لانه كان هناك عدوان واضح كالشمس تمثل بالغاء دولة عن الخريطة وتعريض مصالح اميركية حيوية للخطر. اما اليوم فالموجود عرقلة عراقية لفريق التفتيش الدولي، ما لا يمكن مقارنته بالوضع سنة 1990 و1991، لذلك يسعى الرئيس كلينتون الى حشد دعم دولي يعرف انه غير ممكن ليبرر عدم تدخله. وهو في النهاية قد يتدخل الا ان تدخله سيظل محدوداً ومن حجم المخالفة العراقية، ولا يمكن مقارنته بالتدخل الاميركي السابق الذي كان من حجم جناية النظام العراقي. والرئيس كلينتون في وضع لا يمكن ان يطلع منه رابحاً، وانما أفضل ما يحقق هو ان يختار الخسارة الاقل، فهو اذا تدخل منفرداً سيجد من يتهم اميركا بغطرسة القوة ومحاولة الهيمنة وهو اذا طلب التعددية واجه انتقاداً من جهات دولية تتهم اميركا بالتخلي عن مسؤوليتها الدولية بالاضافة الى انتقاد النخب المحلية التي تريد للولايات المتحدة ان تعمل شرطياً للعالم، خصوصاً عندما يفيد ذلك اسرائيل. وفي مثل هذا الوضع فالرئيس الاميركي سيفضّل مبدأه القاضي بالتدخل متأخراً وبأقل قوة ممكنة، فالضرر منه أقل من اي مبدأ آخر يحاول دعاته ربط اسم كلينتون به.