قد يُضطر الرئيس باراك أوباما إلى اتخاذ إجراءات أشدّ في الشأن السوري تحت ضغط استخدام النظام للسلاح الكيماوي، هذا لن يكون سريعاً، ويُرجَّح ألا يستبق لقاءه فلاديمير بوتين منتصف حزيران (يونيو) المقبل. الدوائر الأميركية المختصة لا تخفي عدم وجود خطط معدة للتدخل، ولو على سبيل الاحتياط، ولسنا نقصد الخطط العسكرية الطارئة فحسب، فالمؤشرات السياسية العامة لا تدلل على زخم أميركي معتاد في مثل هذه الحالات، حتى أن مؤتمر أصدقاء سورية الأخير في إسطنبول كان الأقل حشداً على مستوى الحضور والفعالية، ربما باستثناء فعاليته في الضغط على المعارضة لإقناعها بالتفاوض مع النظام. وبينما يبدي الروس خشيتهم من استخدام ذريعة «الكيماوي» على النحو الذي استخدمت فيه ذريعة أسلحة الدمار الشامل ضد صدّام حسين، لا يظهر أن هذا السيناريو قابل للتكرار إلا في الضرورة القصوى. المقارنة ذاتها ترجّح فرضية عدم التدخل، فالتخوفات الأميركية المعلنة إزاء صدّام كانت تنصب على وجود تلك الأسلحة في حوزة النظام، أما في الحالة السورية فتتركز غالبية المخاوف في فشل النظام في السيطرة عليها، وفي مرتبة متأخرة تأتي المخاوف من استخدامه إياها على نطاق واسع. ثم إن أسطورة رابع أقوى جيش في العالم يُعاد إنتاجها الآن على نحو معكوس تماماً، إذ يضخّم بعض الدوائر الأميركية قوة جيش النظام لا من حيث قدرته على الإخلال بالأمن والسلم الدوليين، وإنما لجهة الكلفة الباهظة لفرض مناطق حظر جوي أو التدخل البري المباشر... في الوقت الذي تعترف تلك الدوائر بأن قوات النظام عاجزة عن استعادة السيطرة على مناطق واسعة داخل البلاد، من مقاتلي المعارضة القليلي الإعداد والتجهيز! لكن تلكؤ واشنطن، وإعلاناتها المتكررة عن عدم نيتها التدخل العسكري، لم تمنع بقاء الأنظار مصوبة إليها، بانتظار أمر العمليات الذي قد يصدر في أية لحظة. لا يقلل من هذا أن الإدارة الأميركية عمدت مراراً إلى لجم حلفائها الدوليين والإقليميين، حين ذهبوا أبعد مما ترغب في محاصرة النظام أو دعم المعارضة. أيضاً لا يقلل من هذه التطلعات أن الإدارة ضغطت على بعض حلفائها لقطع الإمدادات عن مقاتلي المعارضة، حينما تقدموا ميدانياً أكثر مما تراه ضرورياً أو مناسباً. ثمة انكفاء صريح عن تحمل المسؤولية الدولية، يقابله شيء من عدم اقتناع الحلفاء بثبات التوجه الجديد، ما يجعل الإدارة تحت ضغط مطالبات الحلفاء، أكثر من الضغط المباشر للحدث السوري. ويجوز القول إنها، للمرة الأولى، تخذل حلفاءها التقليديين في المنطقة على هذا النحو المكشوف، فضلاً عن تفويتها فرصة إقامة صداقة مع القوى السورية الناهضة، الأمر الذي يصعب تخيله في ظل الدور الأميركي التقليدي الذي يجعل سياسة الحلفاء بلا إسناد يُعتد به. وسيكون مرجَّحاً أن ترخي هذه السياسة الجديدة بظلالها السلبية أولاً على الحلفاء الإقليميين، باستثناء أمن إسرائيل الذي يبقى خطاً أحمر، وذلك في أثناء تخلخل التوازنات الإقليمية السابقة على الربيع العربي، ودخول المنطقة نفق احتمالات قد يعسر على دولها ضبط مساره. ومع أن الإدارات الديموقراطية في الولاياتالمتحدة أقل انخراطاً من نظيراتها الجمهورية في تفاصيل المنطقة، يبقى تراجع الإدارة الحالية غير مسبوق، فتبدو الدورة الثانية لأوباما وقد تخلّصت حتى من إرث الديموقراطيين في عهد كلينتون. ففي ذلك العهد تراجعت مظاهر القوة العسكرية المباشرة التي أرساها ريغان وبوش الأب لمصلحة مفهوم أكثر توازناً للدور القيادي، ولم يمنع ذلك من استخدامها حيثما فشلت الأساليب السياسية، كما في حالتي استمرار الضغط على صدّام والحرب البوسنية. ومن نافل القول إن المحاولة المتأخرة لإدارة أوباما لتحريك الملف الفلسطيني - الإسرائيلي لا ترقى إلى الجهود الحثيثة التي بذلتها إدارة كلينتون في هذا المضمار. ربما يصح تشبيه الفترة الحالية من السياسة الأميركية في المنطقة بفترة احتضار الأب، فلا هو قادر على مباشرة شؤونه كالمعتاد، ولا الأولاد قادرون على إدارة التركة بأنفسهم، بخاصة أن الأب احتفظ لنفسه بمفاتيح القرار، ولم يقم يمكّنهم من إدارة التركة باستقلالية، على عكس المتحفزين لانتزاعها منهم. فالإدارات المتعاقبة حافظت على حد مضبوط من قوة حلفائها في المنطقة، مرة أخرى باستثناء إسرائيل، بينما تغاضت عن تنامي القوى الإقليمية المنافسة، أو أخطأت في حساباتها تجاه هذه القوى. ولا يتعلق الأمر حالياً فقط بعدم أخلاقية الانسحاب الأميركي والتخلي الذي يبدو أنه فاجأ بعض الحلفاء، بل قد يؤثر في مصداقية السياسة الخارجية الأميركية ككل، ويؤذن تالياً بنهاية دراماتيكية لما سُمّي العصر الأميركي. استطراداً للمجاز السابق، قد لا يكون خطأ تشبيه النظام السوري بابن مدلل من خارج العائلة. ففي السنوات الأخيرة خذلت أميركا حلفاءها مرتين على الأقل لمصلحة النظام؛ الأولى عندما سمحت لحلفائه بإعادة السيطرة على الحكومة اللبنانية، والثانية عندما سمحت بانقضاض نوري المالكي على نتائج الانتخابات العراقية واستفراده بالحكم. وفي الحالتين ابتلع الحلفاء الإساءتين على مضض، على رغم تأثيرهما الكبير في التوازن الإقليمي، ولم يكن متوقعاً في أسوأ الأحوال أن تفوّت الإدارة فرصة ثمينة كالثورة السورية لمصلحة الحلفاء هذه المرة. بين التعطش الخارجي الأحمق للمحافظين الجدد والانكفاء السلبي التام للإدارة الحالية، تقع المنطقة برمتها ضحية سوء التقديرات الأميركية وعدم التوازن في موضوع استخدام القوة أو الامتناع عنه. ولا شك في أن قسماً كبيراً من الاعتبارات التي تحكم ذلك يتعلق بالحسابات الداخلية، إلا أن التركيز على المزاج العام الأميركي وحده يقوّض فكرة أميركا كدولة فوق مفهوم الدولة، ويقوّض العصر الأميركي الذي بدأ فعلاً مع مستهل الحرب الباردة. كان التحول الأميركي مطلوباً، ليس على هيئة ما يحدث الآن، وإنما من النوع الذي يبشر بقيادة ديموقراطية أكبر في العالم وفي العلاقات الدولية، هذا أيضاً ما تكهّن به يوماً بعض الأميركيين كالباحث ألفين توفلر الذي عمل ضمن مستشاري بيل كلينتون، حين لم يستبعد - ولو على سبيل الخيال السياسي - أن تشارك الدول المتأثرة بالسياسة الأميركية في الانتخابات التشريعية لأميركا!