لاشك ان الهيبة الامريكية كما سبق وان اشرنا في المقالة الاولى من هذه السلسلة قد لحقها ضرر كبير بفعل احداث الحادي عشر من سبتمبر، واثار اكثر من علامة استفهام على قدرتها الردعية في القرن الواحد والعشرين الذي دخلته كقوة وحيدة في العالم. من هنا كان من المفهوم جدا عزمها على ان لا يتكرر ما حدث تحت اي ظرف من الظروف، وهو ما اكدته التصريحات المتتالية التي خرجت تباعا من البيت الابيض والبنتاجون، وتلك التشريعات الاستثنائية غير المسبوقة في التاريخ الامريكي التي صدرت بمباركة من الكونجرس الامريكي مطلقة ايادي اجهزة الامن الامريكية في تتبع واحتجاز كل من يشتبه بانتمائه الى اي تنظيم تشك تلك الاجهزة "مجرد شك" بانتمائه الى اي تنظيم يدخل ضمن ما تصنفه على انه ارهاب. اما على الصعيد الخارجي فمن الواضح جدا ان الولاياتالمتحدة من خلال ترسانتها العسكرية المتواجدة في مناطق شتى في العالم تؤكد وبشكل قاطع انها لن تقبل باي تعثر آخر خاصة في الشق العسكري. انها بطريقة او باخري تؤكد من خلال ما تقوم به سياسيا وعسكريا، بانها تعيش مرحلة العزم على استرداد قوتها الردعية بغض النظر عن هشاشة المبررات التي تسوقها لتحقيق هذا الهدف. من هنا كانت مراهنة صانعي القرار السياسي الامريكي على ان الفشل او التعثر في ضغطها السياسي والعسكري على العراق قد يقضي على هيبتها نهائيا وهو ما اكدته "آبلباوم" في مقالتها في "الصنداي تلجراف" عندما اشارت بوضوح الى ان الحرب المنتظرة على العراق لن تحقق سوى هدف سيكولوجي. فالرئيس بوش الذي تحدث مرارا وتكرارا عن مذهب عسكري جديد يقوم على "الضربة الاستباقية"، واتخاذ التدابير الاحترازية كلما تعرض أمن امريكا القومي للخطر يجد نفسه مضطرا لان يثبت للعالم انه يقرن الاقوال بالافعال. .. وتؤكد "ابلبام" في هذا الصدد ان حرب الولاياتالمتحدة ضد نظام طالبان وتنظيم القاعدة في افغانستان كان رد فعل وليس ضربة استباقية، وبالتالي فان غزو العراق سيؤكد انه يعني ما يقوله، وسيروي تعطش جنرالات الحرب الامريكيين لمناظر الدماء بغض النظر. وفي الاطار نفسه تشير فليب نايتلي في مقالة لها في صحيفة الانديندنت اون صنداي.. الى المخاطر المحفوفة بالغزو المحتمل للعراق والاطاحة برئيسه صدام حسين والتي يأتي في اولى اولوياتها ما يمكن ان يحدث في العراق والبدائل الممكنة لنظام صدام في حال تمكنت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها من الانتصار في العملية المرتقبة. وفي الاتجاه ذاته يرى "ريتشارد هاريس" في مقال له بعنوان (هذه الحرب لن تكون عادلة) والذي نشره في صحيفة الاوبزرفر البريطانية، ان المعايير الاخلاقية للحرب العادلة لا تتوفر في المبررات التي تسوقها الولاياتالمتحدة حتى الان لحملتها المرتقبة، مشيرا الى انه ليس ثمة ما يؤكد ان سلطات بغداد قد تمكنت من تطوير اسلحة دمار شامل منذ طردها المفتشين الدوليين في عام 1998. وعلى الرغم من كل هذه الاصوات التي خرجت منادية امريكا بالتعقل، والحكمة، والاناة وهي تحشد ترسانتها العسكرية الضخمة استعدادا لحربها المنتظرة ضد العراق استمر الخطاب السياسي الامريكي في تصعيده للهجة الحرب هادفا من وراء ذلك الى تحقيق مجموعة من الاهداف. داخليا ترغب ادارة الرئيس بوش في المحافظة على الدعم الداخلي الذي حصلت عليه عقب احداث الحادي عشر من سبتمبر والذي وضح جليا في استطلاعات الرأي العام المؤيدة للرئيس الذي اخذ موقفا تجلى واضحا بفوز الجمهوريين عقب الانتخابات التشريعية الاخيرة، وبالتالي فالمحافظة على هذا الزخم تتطلب ايجاد اعداء جدد يبرر تخصيص مليارات الدولارات لآلتها العسكرية. اما على الصعيد الخارجي، فالسياسة الخارجية الامريكية تبدوا مصممة على المضي قدما في الاستغلالل الاستراتيجي لحادثة 11 من سبتمبر، والحرب على العراق لتثبيت الهيمنة الامريكية على العالم ومفاصلة الاستراتيجية، وبالتالي تطويق الاعداء المنافسين المحتملين في المستقبل الذين اسماهم الرئيس الامريكي بمحور الشر اضافة الى المحور الرابع الذي لم يشر اليه بوش صراحة الا وهو الصين. وفي نفس الوقت تريد الادارة الجمهورية الابقاء على زمام المبادرة في يدها وبالتالي ابقاء الرئيس العراقي صدام حسين في حالة "دفاع دائم عن النفس" تجعله مستعدا علي الدوام لتقديم كل التنازلات المطلوبة منه. ففي ظل رفض الرئيس العراقي "القاطع" لاية فكرة تتضمن تنازله عن السلطة يبقي دائما. في الوضع الدفاعي بانتظار عملية سرية تطيح به بكلفة قليلة جدا وهو "هدف سيكولوجي" مهم تحاول القيادة الامريكية تحقيقه. وفي ظل التكلفة الواضحة - للحرب الوقائية - التي سبق وان اشرنا اليها في اعداد سابقة يبرز "الاحتواء" كخيار استراتيجي قليل التكلفة السياسية من منظور انه بحظي بقبول جميع الدول به كبديل للحرب المرتقبة. فسياسة الاحتواء هي بكل تأكيد اقل كلفة من "الحرب الوقائية" كما لا يبدو انها ستؤثر اسعار النفط، بل على العكس من ذلك تماما. انها تؤكد بشكل او باخر الادارة الامريكية الالزامية للنفط العراقي من منظور انها تراقب وتوزع الارباح كما ترغب. اما من منظور الربح السياسي فسياسة الاحتواء لن تكشف الضعف الامريكي وعدم قدرتها على الحسم وهو الهاجس الذي تخشاه. فالامور سوف تبقى غامضة لجميع من تدخلهم في قائمة اعدائها، وبالتالي ستستمر في ادارة شؤون منطقة الشرق الاوسط حسب مصلحة اجندتها وتقاطعها مع مصالح حليفها الاستراتيجي اسرائيل. من هنا نستطيع القول ان الحسابات العقلانية تؤكد ان خيار استراتيجية "الاحتواء" هو الاقل كلفة والاكثر ربحا، لكن الامر يستلزم الصبر السياسي والاناة وصفة العقلانية. فهل تملك الادارة الامريكية وصقور البنتاجون هذ الصفات؟ المؤشرات الاولية تؤكد ان الاجابة هي ليست "بالنفي" وانما "بالنفي القاطع". ولله الامر من قبل ومن بعد