هل كان في وسع أحد من المهتمين بالفن السابع أن يتصوّر لسنوات قليلة خلت، مجيء يوم تقيم فيه محطة تلفزيونية مهرجاناً سينمائياً خارج شاشتها، أي في الصالات أمام جمهور يدعى كجمهور للفن السابع، وليس كجمهور للإبداع التلفزيوني؟... يقيناً أن مثل هذا التصورّ كان صعباً أيام كان كثر من الناس يعتقدون أن ثمة حرباً ما بين الشاشتين. أما اليوم فالأمر بات أشبه بالبديهة إذ حدث، في التقارب أولاً، ثم في التمازج بعد ذلك، بين ما هو سينمائي وتلفزيوني ما أنسى الناس مسألة حرب الشقيقتين هذه. بالتدريج تمّ تقبّل الأمر... ولكن في وقت كان أصبح من العاديّ حضور أعمال وأموال تلفزيونية في المهرجانات السينمائية العالمية والمحلية، بقي عصيّاً على التصوّر حدوث العكس أي قيام التلفزة بتنظيم وتمويل مهرجان لأفلامها التلفزيونية - السينمائية. لكن محطة «آرتي» التلفزيونية الثقافية الألمانية/ الفرنسية فعلتها... بل تفعلها هذه الأيام للمرة الثالثة وتحديداً في تظاهرة تقام هذه الأيام في بيروت. ظاهرياً ما يشاهده الجمهور النخبوي في بيروت هو ما لا يقلّ عن ثمانية أفلام أوروبية وآسيوية عرضت قبل الآن في مهرجانات وفي الصالات. وكذلك يتابع هذا الجمهور، للمناسبة وفي إطار التظاهرة نفسها، تكريماً خاصاً للمخرج الشيلي الأصل والراحل حديثاً راءول رويث الذي عاش وعمل خلال ثلث القرن الأخير بين باريس ولشبونة التي خصّ فيلمه الأخير بأسرارها ما يعني أننا أمام سينما خالصة. غير أن هذا ليس إلا ظاهر الأمور، أما في العمق فإن ما يشاهده الجمهور هو أولاً أعمالاً تلفزيونية الإنتاج والجماليات والمآل، ما كان لها أن توجد لولا وجود تلفزيون ذكيّ نبيه وراق بات يعرف منذ سنوات طويلة أنه كان من شأنه أن يدور في حلقة مفرغة لولا دنوّه من السينما وأن السينما - التي هي أصلاً أنجح وأفضل «برامج» يمكن الشاشة الصغيرة أن تقدّمها وتجتذب بفضلها جمهوراً عريضاً تسئمه برامج الحكي والمنوعات والألعاب والأخبار والطبخ وما شابه - كانت ستبدو في أسوأ حال لولا يد التلفزة الممدودة. ما يشاهده جمهور مهرجان «آرتي» البيروتيّ إذاً، إنما هو آخر وأجمل تجليات العلاقة بين الشاشتين كما تصوّرتها محطة ثقافية فنية حقيقية، مع اعتذارنا طبعاً لكلّ أولئك الذين لا يزالون يعتقدون أن ثمة «داحس وغبراء» بين الشاشتين ستظلّ مندلعة على رغم «كارلوس» وجهود سكورسيزي ورفاقه من كبار مبدعي السينما الذين لم يعودوا يفرقون بين عمل للسينما وعمل للتلفزيون حاكمين على الأعمال فقط من منطلق جودتها وقدرتها على أن تجتذب الى الشاشات الصغيرة جمهوراً أكثر ذكاء وبالتالي أكثر تطلباً لا شك في أن جزءاً منه هو الذي يتابع اليوم مثل هذا المهرجان البيروتي باهتمام.