كم مرة بثت التلفزيونات العربية مجتمعة في العام المنصرم على سبيل المثال، فيلماً – أيّ فيلم – للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان؟ لسنا ندري تماماً، لكننا نرجح انها لم تبث أي فيلم سواء أكانت محطات فضائية أو محلية، ملتزمة أو تجارية أو بين بين. وللمقارنة، فقط هنا، نذكر أن محطة «كنال بلوس» الفرنسية وحدها تبث هذا الأسبوع نحو عشر مرات متتالية الفيلم الأخير لإيليا سليمان، من دون أن تكون ملتزمة أو من هواة السينما السياسية أو الفلسطينية لا هي ولا جمهورها. هي في عرفها تبث الفيلم لمنفعة هذا الجمهور وللترفيه عنه، فإن كان في هذا فائدة لسليمان وقضيته لا بأس! طوال هذا الأسبوع ، إذاً، وعلى شاشة واحدة من أكثر القنوات التلفزيونية الفرنسية شعبية وتجارية يشاهد الفرنسيون «الزمن المتبقي» الذي كان نخبة منهم شاهدوه أول الأمر في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» حيث رشّح لأكثر من جائزة لم ينل أياً منها قبل أن يتلقفه جمهور الصالات فيمنحه نجاحاً لا بأس به ومن ثم ينتقل الى الشاشة الصغيرة فيكون في تصرّف ملايين المتفرجين. فما الذي سيشاهد أو شاهد هؤلاء الملايين في عشرة عروض طوال أسبوع؟ ببساطة: صورة جديدة ومدهشة، ذاتية وقاسية، مضحكة ومبكية إنما من خلال نظرة شديدة الذكاء والحنان والسخرية لواحدة من أكثر القضايا السياسية والجيوستراتيجية تشعباً وإثارة للشجن والعواطف في العقود الأخيرة من القرن العشرين، إنما منظوراً إليها هذه المرة نظرة مزدوجة على الأقل: نظرة التاريخ العام، ونظرة التاريخ الخاص. إذ ثمة هنا فلسطينان وتاريخان من ناحية للزمن الفلسطيني نفسه – ممثّلاً بحكاية والد إيليا سليمان الذي نشهد في الفيلم نضالاته وخيباته حتى موته – ومن ناحية ثانية لزمن فلسطينيّ اليوم ممثّلاً بإيليا سليمان الذي نتابع شرائح من حياته منذ ولادته حتى اليوم وقد عاد «فلسطينياً غير مرئيّ» ليشهد موت أبيه ثم موت أمه. إن الذين يعرفون سينما إيليا سليمان ولا سيما عبر الثلاثية التي لا يشكّل «الزمن المتبقي» سوى جزئها الثالث –والأخير كما يبدو – يألفون حكاية هذا الفلسطيني الذي يبدو مزيجاً من باستر كيتون و «اليهودي التائه»- منذ حولت إسرائيل والصهيونية كل الفلسطينيين الى يهود تائهين فيما كانت تحوّل اليهود الى ما يشبه النازيين الجدد على رغم مقاومة كثر منهم -. ففي فيلميه الطويلين السابقين («سجل اختفاء» و«يد الهية») قدم إيليا سليمان الحكاية وكرّرها واضعاً في طريقه السينما الفلسطينية على سكة جديدة جاعلاً من فلسطين والفلسطيني في طريقه قضية سينمائية أيضاً. أما هنا، في الجزء الثالث فإن دنوّه يبدو أكثر شمولاً وأعمق دلالة حيث يجعل متفرجه يكتشف تاريخاً لم يكن له مكان في الجزءين الأولين. وفي يقيننا أن هذا أهم ما في الأمر هنا. ومن المؤكد أن ما هو أهم من هذا هو عرض الفيلم على الشاشة الصغيرة ولا سيما في قناة شعبية طوال أيام متتالية. ذلك أن متفرج السينما الذي يقصد الصالة أو المهرجان لمشاهدة فيلم لإيليا سليمان يكون عارفاً سلفاً ماذا يفعل ومتعاطفاً سلفاً مع المخرج وفيلمه وقضيته – أو يكون خصماً يقصد الفيلم لاقتناص عيوب أو الرد على ما يقول –. أما متفرج التلفزيون فإنه غالباً ما يجد نفسه أمام أمر واقع وعالم مجهول بالنسبة إليه فيكون الأمر اكتشافاً حقيقياً، بخاصة أن سينما إيليا سليمان فيها من المتعة والذكاء والطرافة والتجديد السينمائي ما يفتح آفاقاً كبيرة أمام «التجديد السياسي ولا سيما أمام متفرجين ينظرون عبر هذه السينما نظرة جديدة كلياً لا إيديولوجية الى قضية كانوا على معرفة ما بكل «كليشيهاتها». لكن سينما سليمان تأتي لتقول شيئاً آخر وبخاصة عن الإنسان وراء القضية... الإنسان الذي دمرته القضية والمشتغلون بالقضية من الذين نسوا دائماً أن هذا الإنسان هو القضية. * «كنال بلوس»،7 بتوقيت غرينتش.