حينما بدأت وانطلقت مظاهر الرفض الشعبي العربي في شق طريقها تجاه عواصم وأنظمة عدد من الدول العربية التي أرست منذ عقود وسنين الكثير من المبادئ والمؤسسات من أجل المحافظة والبقاء لأنظمتها السياسية الديكتاتورية التي لم يحظ الإنسان فيها بأدنى حق أو كرامة أو قيمة، كانت العبارة التقليدية الصادرة من الأنظمة العربية التي لم يصل إليها بعد ذلك المد أو الطوفان ومن المدافعين والمبررين لها: «نحن مختلفون»، و«نحن نتمتع بخصوصية واختلاف في الظروف والأحوال تمنع تكرار ما حصل وشهدته بعض المدن والعواصم العربية»، وغدت تلك الأنظمة تسعى لإقناع شعوبها بأن تقبل وتستكين لوضعها الراهن الذي تعيش فيه، وكانت الرسالة التي أرادت تلك الأنظمة إيصالها إلى شعوبهم «أنكم في وضع يضمن الأمن والاستقرار، وإياكم من شعارات الحرية والكرامة والقيمة الإنسانية والمطالبة بالمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية التي يمنيكم بها الشارع العربي من هنا وهناك»! بداية اعتقدت الأنظمة العربية بأن حركة الاحتجاجات المليونية ستنحصر فقط في تونس ويقتصر نجاحها على خلع نظام الرئيس زين العابدين بن علي القمعي، وأعتقد الجميع أن أنظمة باقي الدول العربية محصنة وفي مأمن من غضب الجماهير، ولن تلقى مصير النظام التونسي، إلا أن شرارة الثورة التونسية لم تلبث أن امتدت إلى مصر بثقلها الإستراتيجي في المنطقة والعالم العربي، فكانت مصر تقول إننا مختلفون عن تونس، ولكن يقف الجميع مشدوهاً أمام عظمة وحضارية الشعب المصري وضخامة تحركه وإصراره الذي نتج عنه اقتلاع نظام مبارك، وأيضاً قالت ليبيا، كما قال سلفها، بأن ما حدث في مصر لا يمكن أن يحدث فيها، فينفجر المجتمع في وجه السلطة وتراق الدماء ويهرب العقيد خاسئاً ذليلاً، وكذلك قال الساسة في اليمن: إن ما حدث في تلك البلدان لا يمكن أن يحدث فيها، فلم نرَ إلا والمظاهرات الشعبية تجتاح أرضها، وكذلك في سورية الجريحة التي لا يزال رئيسها يستميت من أجل بقائه وحزبه على سدة وقاع هرم السلطة وذلك على حساب دماء الشعب والأرض والأمن. وهكذا امتدت هذه التحركات الجماهيرية الواسعة لتشمل عدداً من الأقطار التي كان يخيل إليها أنها في حصن منيع وبمنأى عن وصول حمى تلك الثورات إليها، حتى أصبحت مسألة التغيير الديموقراطي ونيل الحريات هي الشغل الشاغل للشعوب العربية، لتعلن نهاية وانكسار حاجز الخوف وولادة وعي سياسي جديد بين شرائح واسعة في المجتمعات العربية، فكانت موجة الاحتجاجات تنتقل من قطر عربي لآخر لتهز معها عروشاً كانت تعتقد أنها صلبة وأنها لن تمس في يوم من الأيام! إن أطروحة الاستقرار والأفضلية النسبية على الغير وعلى الآخرين، وكما يقال بالعامية الدارجة «حنا أحسن من غيرنا»، ربما كانت لها وجاهة وتأثير في عقود وسنوات مضت، ولكن سرعان ما بدأ يأفل نجمها ويختفي بريقها، حتى لم يعد ثمة طائل يرتجى من وراء استمرار التغني والتشبث بها. فمعظم الأنظمة في الوقت الراهن لم تعد تملك منجزاً أو رؤية إستراتيجية أو استحقاقاً أو رأس مال سياسي أو أيديولوجي أو إنساني تتكئ وتستند عليه وتستمد منه شرعية بقائها في القيادة والحكم سوى الشعب، فعلى مدى العقود الماضية كانت الأنظمة تستند وتعتاش في شرعيتها على الوعود بالتنمية الشاملة والبناء الداخلي للمجتمع والفرد، وفي كل مرحلة كان يتم اختلاق الجبهات والمؤثرات المعيقة من أجل دوام وبقاء الشرعية لها، وقد كان من آخرها شرعية الوقوف أمام خطورة المد من حركات الإسلام السياسي، وفي خضم تنوع تركيب تلك الشرعيات وإعادة إنتاجها على مدى السنوات تم إجهاض أي حلم شعبي بالإصلاح وبالديموقراطية وبالمشاركة السياسية تحت مزاعم عدة، وفي مقابل ما كانت توفره تلك الشرعيات من مسوغات ظرفية ومبررات تحتمي بها الأنظمة، كان على الشعوب أن تتخلى وأن تتنازل، إما طوعاً أو كرهاً، عن أحلامها بالحرية والإصلاح والتغيير وتؤجل ذلك كله تحت تسميات مختلفة! ولكن ومع مطلع القرن ال21 وفي ظل إعلامه المفتوح، ومع انتفاض وتحرك أجيال الشباب في عدد من الأماكن بهدف امتلاك زمام المبادرة بشأن مستقبلهم وتأثرهم بتجارب نظرائهم في الثورات الناجحة، والانتشار الكثيف لوسائل التكنولوجيا والاتصال الداعمة لتحركاتهم، وانكسار حاجز الخوف أمام الشعوب العربية في مواجهة ومقارعة الأنظمة القمعية المستبدة التي يستمر فيها الحاكم حاكماً للأبد. كل ذلك وغيره بات يعني أن الجميع أصبح أمامه خياران أو طريقان: إما الإصلاح الحقيقي والتغيير وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وحصول الشعوب على حقوقها السياسية والمدنية، ومنحها حريتها بما في ذلك حرية الرأي والتعبير. أما الخيار الثاني فهو بمواجهة ما واجهته بعض الأقطار العربية من ثورات سلمية أو دموية انتهت برحيل تلك الأنظمة! ولذلك قال الباحث الأكاديمي بجامعة كمبردج الدكتور خالد الحروب: «إن المنظرين لأطروحة وفكرة الاختلاف يجرون بلدانهم إلى الهاوية، عندما لا يمتلكون الجرأة والشجاعة في مواجهتهم بالحقيقة المرة: إما الإصلاح الجذري أو السقوط المدوي، وأن كل ما يمكن القيام به من إجراءات وسبل وقاية لا يتعدى تأثيره فعل المسكن، ذلك أنه لا يمكن إيقاف عجلة التاريخ المنحازة إلى الشعوب وحرياتها، التى وصلت بإنسان القرن ال21 لأن يرفض أن يُحكم بحكم مفروض عليه مهما كان المسوغ أو المبرر». فهل تستوعب وتستفيد الأنظمة الدروس والعبر من كل ما يحصل من حولها وتبادر للتغيير والإصلاح الجذري؟! أما آن لنا بعد كل هذه الأحداث أن نتعظ ونستوعب الدروس حتى لا يتجاوزنا التاريخ، مهما حاولت هذه الأنظمة ومهما كانت الانقسامات فإن قطار التغيير وصل إلى العالم العربي ولن يتمكن أحد من إيقافه. * كاتب سعودي. [email protected] twitter | @hasansalm