ساد وعلى مدى عقود ماضية اعتقاد راسخ لدى بعض النخب العربية باختلاف انتماءاتها السياسية والفكرية أن الشعوب العربية ليس أمامها من مستقبل إلا بأحد خيارين. وهما إما قبول العيش والبقاء في ظل الأنظمة الديكتاتورية القمعية، وإما القبول بمجيء أحزاب إسلامية هي وحدها القادرة ونظراً لثقلها الشعبي - وفقاً للاعتقاد السائد - على إسقاط تلك الأنظمة والديكتاتوريات، ولكن الواقع أبى إلا أن يثبت بطلان ذلك الاعتقاد فهاهي الثورات العربية التي عمت أقطاراً عدة من عالمنا العربي الآن تجسد خياراً جديداً لشعوبنا العربية هو خيار الحرية والكرامة والقانون، لم تكن هذه الثورات الشعبية التي أطاحت ولا تزال تطيح بأنظمة قمعية ثمرة تحركات أو جهود لأحزاب وحركات أيدلوجية تقليدية سواء كانت إسلامية أو قومية بل كان ملهمها ومصدرها الحقيقي هو المجتمع المدني، وهو ما يشير إلى فرادتها واختلافها، فهي ثورات غير أيديولوجية بالمعايير المعروفة عملياً ونظرياً. ولذلك استطاعت أن تذهل العالم كله بطابعها المسؤول والسلمي في وسائلها ومطالباتها التغييرية والإصلاحية! إن القوة التي لعبت دور المحرك الرئيس في هذه الثورة، وفي قيادتها هي الحركة الشبابية من طلاب الجامعات وغيرهم، هؤلاء الشباب هم الذين فجروا الثورات العربية وهم الذين قادوها، ولذلك فمن الواضح أننا أمام جيل عربي جديد هو جيل ما بعد الحركات الإسلامية، هؤلاء بالنسبة إليهم الحركات الثورية كافة في السبعينات والثمانينات الماضية تاريخ قد ولى ومضى! لا يهتمّ هذا الجيل الجديد بأي نوع من الأيديولوجيات، فمطلبهم الرئيس قبل كل شيء هو رفضهم للديكتاتوريات الفاسدة والمطالبة بالديموقراطية. ولا يعني هذا بالتأكيد أن المتظاهرين علمانيون أو لا دينيين، بل يعني أنهم لا يرون في الإسلام أيديولوجيا قادرة على خلق نظام سياسي أفضل لمستقبل حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فهم يطمحون لحياة ديمقراطية ولدولة مدنية أساسها الاحتكام التام للشعب أيا كانت خياراته، والقبول بحق ومبدأ تداول السلطة والتسليم باختيار الشعب لها وهو حلم يراود الشباب العربي بلا استثناء. لقد حطمت هذه الثورات الأسطورة التي بنيت طيلة العقود الماضية بأن الحركات الإسلامية وحدها هي التي تملك القوة الأيديولوجية والتنظيمية لتحدي الأنظمة في العالم العربي وأثبتت لكل الشعوب العربية أن الشباب الواعي بحقوقه السياسية في أقطار عالمنا العربي وفي مدة وجيزة استطاع تحقيق ما عجزت عنه كافة الحركات الإسلامية عن إنجازه على مدى عقود من الزمن. لقد جادل الإسلاميون طويلاً على وجه التنظير في أن طروحاتهم الدينية هي السبيل الأوحد للتغلب على جبروت الأنظمة القمعية المستبدة، لكن المنتفضين في هذه الثورات أظهروا أن الرهان والاعتماد في التغيير والتأثير إنما يكون عبر مطالب وحقوق المواطن أولاً وأخيراً! وجادل الإسلاميون بأنهم ولكثرة الأتباع من رواد المساجد وغيرها سيضمنون أعداد الجماهير للعمل السياسي وللتضحية في سبيل الله، ولكن هؤلاء الشباب أثبتوا وبما لا يدع مجالا للشك بأنهم هم الأقدر على التأثير الحقيقي على رجل الشارع وبالبعد عن كل الشعارات الدينية وغيرها! إنه جيل متعلم وجامعي، جيل غير متأثر بالأيديولوجيات القومية والإسلامية السائدة في العالم العربي، جيل لم يذق طعم الديمقراطية ولم ينعم بتعددية أو بحريات منذ لحظة ظهوره إلى هذا العالم. جيل كان يائساً وغاضباً من الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان وغياب المحاسبة وحرية النقد التعبير على الرأي ولكنه بطموحه وهمته اكتشف أنه عبر العمل العفوي والجماعي، وتوافر إرادة صلبة لديه، ورفضه لثقافة القمع والفساد والتهميش، يمكن أن يفجر ثورة شعبية كبيرة تطيح برؤوس أكثر الأنظمة العربية قمعية خلال مدة وجيزة من الزمن،هي ثورة الحرية والكرامة الوطنية والبحث عن الديموقراطية، وهي أيضاً ثورة حقوق المواطن السياسية والاقتصادية العامة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان سامية. ولقد اندفعت هذه الحركة الشبابية في ظل انعدام معاني الحرية، وانعدام المشاركة السياسية والاجتماعية في جميع دول العالم العربي إلى خلق وإيجاد أجواء تتيح لها حرية أداء اعتراضها وتوضيح مطالباتها بالتغيير فكانت شبكات الانترنت هي الملاذ الوحيد لحريتها، وهو الفضاء المتاح لها للتعبير عن نفسها، وبفضل المدوّنات الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي تويتر وفيسبوك، بلور هذا الجيل العربي الجيد حيّز حريّته واعتراضاته .ولقد أجرت شركة بورسون مارستيلر المختصة بخدمات العلاقات العامة استطلاع رأي عن الشباب العربي، بين سن 18 و24 عاماً، في بلدان الشرق الأوسط عن مدى سرعة تنامي الوعي السياسي في المنطقة ففي عام 2008، قال 50 في المئة فقط ممن شاركوا في الاستطلاع ضمن هذه الفئة العمرية إن 'العيش في بلد ديمقراطي' كان مهماً بالنسبة إليهم، وفي بداية هذا العام- وقبل الإطاحة بأي حاكم دكتاتوري- ارتفعت تلك النسبة إلى 92 في المئة، وكذلك كان من الواضح أن الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي أدت دوراً رئيساً في هذا المجال: ففي عام 2009 كان 56 في المئة منهم يستعملون الإنترنت يومياً، وارتفعت تلك النسبة لتبلغ 80 في المئة في عام 2010. لذلك يجب على بقية النظم العربية أن تلتفت إلى هذه الحقيقة وأن تبادر في تحقيق مطالب شعوبها بصورة جادة، وأن تعي وتدرك أن هذا الجيل لم يعد يطيق الاستسلام لأوضاعه البائسة في أي جزء من عالمه العربي وأنه لن يمل أو يكل حتى يزهر ربيعه في الأقطار العربية كافة ليحقق كل آماله وطموحه إن عاجلاً أو آجلاً. * كاتب سعودي. [email protected]