الحق أن حرب ليبيا متواضعة قياساً إلى تدخل الدول الغربية في البلقان والخليج وأفغانستان والعراق. ففي الحرب هذه، توسل بأقل من مئة مقاتلة جوية وأقل من عشر مروحيات حربية. ولكن نتائج الحرب هذه الاستراتيجية لا يستهان بها، وأثرها بالغ في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. ويعود الأثر هذا إلى القرار المزدوج الذي اتخذته أميركا: سحب طياريها وطائراتها من القتال وعدم قيادة النزاع. وهذه سابقة من نوعها منذ انتهاء عهد الحروب الاستعمارية. فالولاياتالمتحدة تراجعت عن قيادة حرب ائتلافية. وفاجأ القرار الأميركي الدول الأوروبية في ال «ناتو». ولكنها سرعان ما تكيفت مع الواقع الجديد. وأغلب الظن أن غياب دعم الطائرات الأميركية أطال الحرب. فالفرنسيون والبريطانيون احتاجوا إلى وقت لنقل مروحياتهم الحربية الهجومية إلى ساحة النزاع. ونتائج السياسة الأميركية الجديدة الموسومة ب «ليدينغ فروم بيهايند» أو القيادة الخلفية، كثيرة، أبرزها عدم انتهاج نهج القوة الأميركية الكاسحة («أوفيرولمينغ باور» أو «شوك أند أو») في الحرب. فلم تبادر قوات ال «ناتو» إلى تدمير محطات الكهرباء ومصانع تكرار المياه وغيرها من البنى التحتية التي أثقل دمارها عملية إعمار دول منكوبة مثل العراق وكوسوفو وصربيا في مرحلة ما بعد الحرب. وإذا أفلحت السلطات الليبية الجديدة في الحؤول دون اندلاع أعمال نهب وسرقة، وسعها استخدام البنى التحتية لبعث دوران عجلة الحياة اليومية. ولا شك في أن تغير السياسة الأميركية ينوء بثقله على الموازنات الدفاعية الأوروبية. ففي الحرب الباردة ومرحلة ما بعدها، ساد توزيع عمل بين الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. وأوكلت إلى الأميركيين إطاحة الدفاعات الجوية وسلاح جو الخصوم. لذا، تبرز حاجة أوروبية إلى حيازة مقاتلات جوية وطائرات دعم وتطوير وسائل إمداد الطائرات بالوقود، في وقت تقوض الأزمة الموازنات الدفاعية الأوروبية. وثمة مؤشرات إلى أن الموقف الأميركي الأخير من الحرب الليبية هو فاتحة سياسة أميركية جديدة. فأميركا تقوقعت على نفسها، إثر المغامرة العراقية وحرب أفغانستان الطويلة وتقليص موازنة الدفاع الأميركية تقليصاً كبيراً حتى عام 2020. وتبلغ قيمة الاقتطاع من الموازنة هذه نحو 500 و900 بليون دولار، وفق اتفاق الديون. ويرجح أن تضطر الدول الأوروبية إلى تقليص مساهمتها في الائتلافات العسكرية التي تقودها الولاياتالمتحدة، على غرار حرب أفغانستان. ويفوق عدد الجنود الأوروبيين المشاركين في الحرب هذه إلى جانب زملائهم في السلاح الأميركيين، 30 ألف جندي. فعوض أن يتعولم ويوسع رقعة عملياته خارج القارة الأوروبية، يميل ال «ناتو» إلى العودة قوة إقليمية أوروبية. وبرز انعطاف استراتيجي ثانٍ في الحرب الليبية: إحجام دول عضو في الاتحاد الأوروبي و ال «ناتو» عن المشاركة في الحرب هذه، على رغم تفويض مجلس أمن الأممالمتحدة وقرار حلف شمال الأطلسي قيادة القوات المشاركة. وعلى سبيل المثل، لم تكتفِ ألمانيا بالامتناع عن المشاركة في العمليات الحربية في ليبيا فحسب، بل حظرت على الألمان العاملين في فريق طائرات الرادار «أواكس» الأطلسية أداء مهماتهم والمساهمة في الحرب. والموقف هذا يعيد ألمانيا 20 عاماً إلى الوراء، أي إلى مرحلة مواجهتها هذا النوع من المشكلات في حرب الخليج وفي البوسنة. ويرتجى أن تعدل ألمانيا عن الموقف هذا، إثر تغير نهجها السياسي وتغير الائتلاف الحاكم. وفي وقت رفضت دول مهمة مثل بولندا وتركيا وألمانيا توسل القوة في ليبيا، لم يفلح التحالف الأطلسي في قيادة العملية السياسية في حرب ليبيا، على نحو ما فعل في الحملة الجوية على كوسوفو في 1999. ويدعو إلى الأسف، فشل الاتحاد الأوروبي في قيادة العملية هذه، إثر تعثّر بروز سياسة خارجية ودفاعية أوروبية اتحادية مشتركة. وشأن أزمة الديون السيادية، أبرزت حرب ليبيا ثغرات المشروع الأوروبي وشوائبه. * مستشار خاص في مؤسسة الأبحاث الإستراتيجية، عن «انترناشونال هيرالد تريبيون» الدولية، 29/8/2011، إعداد منال نحاس