في الرابع والعشرين من أيلول سبتمبر، من العام الجاري، قال وزير الدفاع الفرنسي، ايرفيه موران: "إن جميع دول العالم تتسلح من جديد والأوروبيون الذين كانت ميزانياتهم ضعيفة بالفعل، أجروا الآن تخفيضات جديدة".وحسب موران، فإن أغلب الدول الأوروبية تخلت عن فكرة ضمان امتلاك قدرات عسكرية فعالة، للسعي نحو تأثير أكبر في العالم. وتساءل قائلاً: "مسألة القدرة الأوروبية هي قبل كل شيء مسألة سياسية. هل يريد الأوروبيون أن يصبحوا فاعلين على الساحة الدولية، أم أنهم يريدون أن يكونوا ممثلين في نص كتبه الآخرون ؟". وفيما حافظت بقية القوى الدولية الكبرى على موازنات دفاع كبيرة، ومعدلات نمو ايجابية غالباً في حجم الإنفاق العسكري،استمر هذا الإنفاق ضعيفاً في أوروبا، الأمر الذي ألقى مزيداً من الشكوك حول قدرة الاتحاد الأوروبي على تنفيذ خططه الأمنية،التي يصبو من خلالها للنهوض بالتزامات كونية الطابع. ...ويرى بعض المخططين في الناتو بأنه على الرغم من أن لا التقسيم الجغرافي ولا الوظيفي للمهمات، يعد خياراً نموذجياً، فإن قضايا من قبيل حفظ السلام يمكن أن تغدو تحت قيادة الاتحاد الأوروبي، في حين تصبح مهام مثل العملية الدائرة في أفغانستان تحت قيادة الناتو. كذلك، ترمي قضية الإنفاق الدفاعي في أوروبا بظلالها على ما يعرف "بتقاسم الأعباء" بين ضفتي الأطلسي، وخاصة في ضوء ما تثيره حرب أفغانستان من تحديات. ووفقاً لقاعدة بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI Database)، فقد بلغت نسبة الإنفاق الدفاعي للناتج القومي الإجمالي في فرنسا 2.3%، عامي 2008 و2009، نزولاً من 2.6% عام 2004 و 3.6% عام 1988. وفي ألمانيا، جاءت النسبة 1.3% عام 2008، محافظة على وضع عامي 2007 و2006. وكانت هذه النسبة 1.5% طوال الفترة بين 1997 – 2002، في حين بلغت 2.9% عام 1988. وبلغت النسبة في إيطاليا 1.7% عام 2008.وذلك للسنة الثانية على التوالي.وكانت هذه النسبة قد حافظت على 2% في الفترة بين 1999 – 2004، بعد أن وصلت 2.3% في العام 1989. أما بريطانيا فسجلت في العام 2008 نسبة إنفاق دفاعي بلغت 2.5% من الناتج القومي الإجمالي. وحافظت على نسبة تتراوح بين 2.4% و2.5% طوال الفترة الممتدة منذ العام 1999.وكانت هذه النسبة قد بلغت 4.1% عام 1988. وفي إسبانيا، لم تتجاوز نسبة الإنفاق الدفاعي إلى الناتج القومي الإجمالي 1.2% منذ العام 1999.ولا يختلف الوضع كثيراً في هولندا. في المقابل، بلغت نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج القومي الإجمالي في الولاياتالمتحدة 4.3% في العام 2008.وهي أعلى نسبة تبلغها منذ العام 1993 عندما سجلت 4.5%.وتراوحت هذه النسبة بين 3.8% و 4% خلال الفترة بين عامي 2003 – 2007.وكانت النسبة المسجلة على مشارف نهاية الحرب الباردة عام 1988 هي 5.7%. وهناك من الساسة الأوروبيين من يرى أنه يوجد في صميم المفهوم الأوروبي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، رفض للمقولات التي أنتجتها معاهدة وستفاليا ( التي وقعت في العام 1648 )، مع ما تضمنته من مفاهيم توازن القوى والطموح إلى الهيمنة لدى الدول الكبرى. وقد شهدت الفترة الممتدة منذ العام 1980 (أي إبان ذروة الحرب الباردة) وحتى اليوم، تزايداً في الهوة التكنولوجية العسكرية بين الدول الأوروبية الست الكبرى (فرنسا وبريطانيا وألمانيا وأسبانيا وايطاليا والسويد) وبين الولاياتالمتحدة، سواء في مجال امتلاك القدرات أو الدراسات أو الأبحاث أو التطوير. وفي الوقت نفسه، برزت معضلة التعريف الجديد "للأمن الدولي" في مفهومه الكلي، وماهية الدبلوماسية الوقائية غير المنفصلة عن القوة: المستندة إليها، كما يقول هنري كيسنجر، أو المتوازية معها، كما عرفها كارل دويتش. ولقد بدا جلياً للأوروبيين مدى تأثير اندثار الحرب الباردة على مناخ العلاقات الدولية، وكم بدت معضلات الأمن شديدة التداخل. وبدا مفهوم الردع مائعاً إلى درجة يكاد يستحيل فيها على التعريف. وعلى الصعيد الدفاعي، يرى بعض المخططين الاستراتيجيين في أوروبا بأن القوات التي بنيت بغرض الدفاع عن قلب القارة ضد هجمة سوفياتية، لم تعد ملائمة للأنواع الجديدة من العمليات، التي باتت تشكل بيئة ما بعد الحرب الباردة.ويطالب هؤلاء بتطوير ميزانيات الدفاع، من خلال إنشاء اعتمادات مالية منفصلة، تخصص لعمليات حفظ السلام المتعددة الجنسيات.وجعل دورة التخطيط الدفاعي ممتدة لسنوات، بدلاً من وضعها على أساس سنوي. وضمن الأولويات التي يطالب بها العسكريون الأوروبيون تخصيص 25% من الميزانيات السنوية للبحوث والتنمية، وتدبير الموارد والتجنيد.وأن لا يزيد الإنفاق على الأفراد عن 40%من ميزانية الدفاع. وقد كشفت تجربة كوسوفو في نهاية التسعينيات، بأن أوروبا لم تكن قادرة على تقديم أكثر من 10% من العمليات الجوية لحلف شمال الأطلسي (الناتو), 5% من الاستطلاع الجوي و15% من الناقلات الجوية وطائرات التزويد بالوقود جواً. وتقليدياً، انقسمت دول أوروبا الغربية إلى تيارين:واحد تقوده فرنسا ويقول بوجود مفهوم دفاعي أوروبي مستقل له علاقة قوية بالناتو.وتيار آخر تمثل بريطانيا وألمانيا حجر الأساس فيه، ويقول بجعل الدفاع الأوروبي جزءاً من استراتيجية الناتو ذاتها. بيد أنه مع اندلاع حروب البلقان تغيرت المعطيات، مما طرح تساؤلات جديدة حول الخيارات الدفاعية التي ينبغي على الأوروبيين انتهاجها. ولقد تم لأول مرة في معاهدة ماسترخت استعراض مسؤولية الاتحاد الأوروبي على صعيد السياسية الأمنية وإمكانية وجود سياسة دفاعية مشتركة. وقد أعلنت المعاهدة في اجتماع المجلس الأوروبي في ماستريخت في 9-10 كانون الأول ديسمبر 1991 وتم التوقيع عليها في 7 شباطِ فبراير 1992. وكان هدفها الأول تطبيق سياسة خارجية وأمنية مشتركة، قد تؤدي إلى بناء دفاع أوروبي مشترك. وبعد دخول معاهدة أمستردام (1999) حيز التنفيذ، جرى تضمين مهام جديدة في اتفاقية الاتحاد الأوروبي (الباب الخامس)، شملت العمليات الإنسانية وعمليات الإغاثة، وحفظ السلام، وعمليات قتالية، وإجراءات بناء السلام ( مهام بيترسبورغ). وهناك أيضاً ما يعرف بمكون تفادي الأزمات، الذي تم إقراره في اجتماع المجلس الأوروبي في حزيران يونيو 2001، والذي ينص على اعتماد وسائل مدنية وعسكرية عند الضرورة. وفي تموز يوليو من العام 2004 جرى تأسيس وكالة الدفاع الأوروبية، بهدف تطوير كافة المجالات المتعلقة بالقوات المسلحة الوطنية للدول الأعضاء، وإقامة المشروعات المشتركة بين القوات المسلحة للاتحاد الأوروبي. وبدأ الاتحاد الأوروبي في العام ذاته في تطوير "مجموعات قتالية" ذات تسليح مشترك، تتألف كل واحدة منها من 1500 جندي، وتؤمن للاتحاد قدرة عسكرية على التعامل مع الأزمات الدولية. من ناحيتها، كانت وزارة الدفاع الأميركية قد طرحت لأول مرة، فكرة قوة التدخل السريع الأطلسية، في أيلول سبتمبر من العام 2002، وقدمتها على أنها "تقاسم للأعباء" مع الحلفاء الأوروبيين، والرد الأمثل على الفجوة القائمة بينهم وبين الولاياتالمتحدة على مستوى القدرات العسكرية، اللوجستية والعملانية.وقد تمت الموافقة على فكرة قوة التدخل السريع خلال قمة الناتو التي عقدت في العاصمة التشيكية براغ، في تشرين الثاني نوفمبر العام 2002. ويرى بعض مخططين في الناتو بأنه على الرغم من أن لا التقسيم الجغرافي ولا الوظيفي للمهمات، يعد خياراً نموذجياً، فإن قضايا من قبيل حفظ السلام يمكن أن تغدو تحت قيادة الاتحاد الأوروبي، في حين تصبح مهام مثل العملية الدائرة في أفغانستان تحت قيادة الناتو. وكان الاتحاد الأوروبي قد أطلق أول مهمة له لحفظ السلام، في آذار مارس من العام 2003،وهي عملية "كونكورديا" في مقدونيا، وقد عدت أول تطبيق لاتفاقية "برلين بلس". وفي الخامس عشر من كانون الأول ديسمبر 2008، جرى الإطلاق الرسمي للقوة العسكرية الأوروبية، المكلفة حماية الملاحة البحرية قبالة سواحل الصومال.وكانت تلك أول عملية بحرية مشتركة للاتحاد الأوروبي.وتغطي دوريات القوة الأوروبية حالياً خليج عدن والساحل الصومالي، وأجزاء مجاورة من المحيط الهندي.وتقرر في أيلول سبتمبر من العام الجاري أن يمتد نطاق عملياتها إلى ما وراء جزر سيشل.وعلى صعيد بنيتها التسليحية، تقرر أن تتزود القوة بست بوارج حربية وثلاث مروحيات للاستطلاع البحري. وفي الوقت الراهن، يعتبر الدور الأوروبي في أفغانستان، من خلال قوة الناتو، أبرز مهمة عسكرية تشارك فيها أوروبا. ولدى الاتحاد الأوروبي مهام مستقلة، غير قتالية، في عدد من مناطق العالم. إن القضية الرئيسية، المطروحة على الصعيد الجيوسياسي، تتمثل فيما إذا كانت أوروبا عازمة على النهوض بدور عالمي، من خلال بناء قوة عسكرية مشتركة، تعكس حضوراً يوازي ثقلها الاقتصادي والمدني عامة.