كان ذلك منذ عشر سنوات، وكنت أقود سيارتي في رحلة طويلة وأردت أن أستريح، فلم أكد أبصر تلك الخيمة وما تحمل من عنوان لقارئة الكف، حتى قلت في نفسي لأدخل فأتسلّى بعض الوقت، ودخلت الخيمة واتخذت مجلساً في تخاذل يزيد من وطأته شعور بتقدم السن، وهناك أخذت المرأة كفي بين يديها ونظرت فيه وقالت: سيدي! إن حياتك لم تنته بعد! ولست أذكر شيئاً مما قيل لي بعد هذه الكلمات المؤثرة، فمنذ جاوزت الخمسين تملّكني إحساس بأن كل شيء قد بلغ نهايته، ولا شيء ذا بال سيحدث في حياتي بعد ذلك، ولكنني لم أكد أغادر خيمة العرّافة حتى بدأت أفكر: ما أشد غبائي، إن حياتي لم تنته ما دمت أعيش، ثم والأهم: هل أنا بحاجة إلى تلك المرأة لكي تخبرني بحقيقتي! ومن لحظتها اتبعت نظاماً خاصاً للحمية، فاستعدت الكثير من رشاقتي ومعه صفاء ذهني، فحين يتقدم الإنسان بالعمر قد تتلاشى حدة بصره ويثقل سمعه، ولكن يظل قوامه تحت سيطرته، وكلما نظر في المرآة فوجد شبهاً بين صورته الذي هو عليها وصورة الشخص الذي كان يراه في شبابه ازداد زهواً وأملاً، ثم بدأت بممارسة أنواع من الرياضة وصلت إلى حد تسلقي للجبال ذات يوم، وإن كان من حكمة استخلصتها بعد هذا المشوار فهي أن مواجهة الشيخوخة إنما هي مسألة مران كلها، أول خطوة فيها تتلخّص في تبسيط الحياة. كلمة أخيرة: لماذا نكف عن الحياة قبل أن تضطرنا الحياة إلى الكف عنها! ثم ما الحياة! إنها التعب والمغامرة والنضال والقلق والنجاح وعدم النجاح ومعاودة الكرة، إنها تضم طرفاً من كل شيء بما فيه اللهو، وكما يقول العقاد وهو في الستين من عمره: «ولم تنقض رغبتي في طيبات الحياة، ولكنني اكتسبت صبراً على ترك ما لابد من تركه، وعلماً بما يفيد من السعي في تحصيله، وقد كنت أحب الحياة كعشيقة تخدعني بزينتها، فأصبحت أحبها كزوجة أعرف عيوبها وتعرف عيوبي»... ويزيد عليه الكاتب المصري سلامة موسى فيضيف بأن الحياة المليئة ما هي سوى سخاء وتفاؤل، باعتبار أن أكبر ما يحدد مساراتنا في الدنيا ويقيم حولها السدود هو البخل العقلي وانكماش الذهن، ومصدره الخوف ومبعثه التشاؤم من الاقتحامات، فيتبلد المرء ويقنع بأيام ضنينة قليلة الخبرة، وقد ينتهي إلى أسلوب من الزهد يكاد ينكر معه الحياة، غير أن سلامة لا ينكر قيمة النسك في ذات الوقت ولكن كوسيلة وليس كغاية، فهو مع ممارسة العفة التي نسمو من خلالها باللقاء الجنسي إلى مستوى من التأنق يرفعنا عن التبذل الرخيص للعاطفة، فنضع التعقل مكان الغريزة «الغشيمة»، فلا تكون العلاقة الجنسية نهباً وخطفاً بل تأملاً وحباً، فنتحدى الجمال الذي يتحدى غرائزنا بفن وتفكير. وقالوا: «عندما لا ندري ما هي الحياة، كيف يمكننا أن نعرف ما هو الموت» كونفوشيوس. [email protected]