يدور في واشنطن وفي بغداد وفي بعض العواصم الدولية والإقليمية حوار مستمر حول مسألة الانسحاب الأميركي المقرر من العراق في نهاية العام الحالي. ويتسم هذا الحوار بالهدوء والبعد عن الأضواء خصوصاً إذا قورن بدرجة سخونة السجالات التي دارت حول هذه المسألة خلال الانتخابات الأميركية الرئاسية الأخيرة. وكان من الأسباب الرئيسية للحرارة التي رافقت وقتها موضوع الانسحاب من العراق هو الاعتقاد السائد انه يوجد تباعد رئيسي بين الحزبين الأميركيين الرئيسيين، الديموقراطي والجمهوري حول هذه المسألة، وأنه إذا فاز باراك أوباما بالرئاسة فإنه سوف يسحب القوات الأميركية بكاملها وفوراً من العراق. وهذا يشمل، في الحسابات الراهنة، سحب 47 ألف جندي وإغلاق مئة قاعدة عسكرية في العراق والتخلص من حوالى مليون من المعدات والتجهيزات الحربية. تبدو الصورة مختلفة الآن. ولقد بدأت هذه الصورة تنجلي عندما ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في إحدى القواعد البحرية الأميركية خلال شهر شباط (فبراير) عام 2009 تصحيحاً للانطباعات الخاطئة عن موقفه الذي سبق دخوله البيت الأبيض. في هذا الخطاب كرر أوباما ما سبق أن أعلنه بعض مساعديه حول نيته في إبقاء «قوات انتقالية» (transitional force) في العراق تنحصر مهمتها في «تدريب العراقيين وتوجيه النصح إليهم والمساعدة على تجهيزهم بالأسلحة المناسبة». وفيما يخوض الحزبان الأميركيان حرباً ضارية ضد بعضهما بعضاً على كل صعيد، فان المواقف آخذة في التقارب على صعيد الموقف تجاه بقاء القوات الأميركية في العراق. ولقد عبر رئيس مجلس الشيوخ الأميركي السناتور جون بوهنر عن الاتجاه السائد في الحزب الجمهوري حيال هذه المسألة عندما قال مؤخراً إنه سيؤيد إدارة أوباما إذا قررت إبقاء القوات الأميركية في العراق الى ما بعد الموعد المقرر لانسحابها في نهاية عام 2012. تصطدم هذه النوايا بصعوبات كثيرة يأتي في مقدمها التراجع المتفاقم في نسبة الأميركيين المؤيدين لبقاء القوات الأميركية في العراق إذ بلغت خلال الفترة الأخيرة 33 في المئة بعد أن بلغت نسبة هؤلاء عند بدء الحرب 64 في المئة بحسب استطلاع نظمته مؤسسة «بيو» الأميركية. غير أن نسبة التأييد لبقاء القوات الأميركية قد ترتفع في المستقبل إذا طرأت على الأوضاع العراقية والإقليمية تطورات جديدة تؤيد آراء المتشددين وصقور السياسة في واشنطن الذين يعتبرون انسحاب القوات الأميركية «كارثة قومية». ويدعم هؤلاء وجهة نظرهم بتقديم الحجج التالية، كما جاء في دراسة أعدتها مؤسسة «ايديا» الدولية: أولاً: إن القوات الأميركية تمكنت من احتواء المقاومة العراقية وتحييد قسم كبير منها والقضاء على رموزها وقياداتها. ويذكر داعمو فكرة «الانتقالية» بمعارضة العديد من السياسيين الأميركيين لاستراتيجية «الاندفاع» surge التي نفذها الجنرال بيترايوس والى التنبؤات المتشائمة التي أحاطت بهذه السياسة والى توقع العديد من المحللين الاستراتيجيين والعسكريين فشل هذه السياسة. إلا أن هذه الاستراتيجية حققت نجاحاً كبيراً، كما يقول داعمو «الانتقالية». ويدعو هؤلاء الى الاستفادة من دروس هذه التجربة عبر التأكيد على سياسة «كسب العراقيين» كأولوية تحل محل «القضاء على المقاومة». وهذا يعني نشر القواعد الأميركية في عدد أكبر من المناطق وإسهام القوات الأميركية في تقديم الخدمات والمشاريع العمرانية. كذلك يؤكد هؤلاء أهمية العوامل الاقتصادية والمعيشية التي تدفع العراقيين الى الالتحاق بالمقاومة. مقابل ذلك يدعو مؤيدو «الانتقالية» الى التعجيل بتنفيذ مشاريع البنية التحتية التي توفر للعراقيين العمل، بل الى تقديم فرص عمل للعراقيين بصورة مباشرة من قبل القوات الأميركية عن طريق تشغيلهم في مجالات أمنية ملحقة بهذه القوات كما حصل مع عناصر «الصحوة». ثانيا: خلافاً للآراء التي تربط بين تدهور الأوضاع الاقتصادية في الولاياتالمتحدة والاحتلال الأميركي للعراق، فان مناهضي الانسحاب يؤكدون أن استمراره وتعميق النفوذ الأميركي في بلد نفطي مثل العراق سوف يساعدان الولاياتالمتحدة على تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها. ويربط معارضو الانسحاب هنا بين الأزمة الاقتصادية وبين ارتفاع كلفة النقل والمواصلات أميركياً وعالمياً، ويعتقدون أن ضمان الحصول على النفط بأسعار متهاودة له آثار إيجابية على الاقتصاد الأميركي وكفيل بتعويض كل ما أنفقته الولاياتالمتحدة على حرب العراق. ثالثاً: الانسحاب من العراق في الموعد المحدد سوف يتم قبل أن تتمكن النخبة العراقية الحاكمة من ترسيخ إقدامها في الحكم، وقبل أن تنجح مساعي إعادة تركيب الجيش العراقي كجيش حليف للولايات المتحدة ومتعاون معها في «الحرب على الإرهاب» وعلى التطرف وفي حماية المصالح الأميركية الاستراتيجية في المنطقة ومنها النفط والممرات الاستراتيجية. ويتوقع مؤيدو الانتقالية أن يؤدي الانسحاب الأميركي الشامل في نهاية هذا العام الى تعزيز قوة المقاومة العراقية، وتمكينها من تصعيد عملها العسكري والسياسي ضد المؤسسات العراقية الحالية. ويرجح أصحاب هذه التوقعات أن يؤدي الانسحاب الى انفراط القوات العراقية الى ميليشيات متقاتلة وانحياز أعداد متزايدة منها الى جانب المقاومة. ولقد التقط مناهضو الانسحاب الأميركي الملاحظة التي أدلى بها رئيس أركان الجيش العراقي عندما قال إن القوات العراقية النظامية ليست في حالة جاهزية للاضطلاع بمهامها في نهاية هذا العام، وأنها تحتاج الى قرابة تسع سنوات على الأقل، حتى تتمكن من القيام بهذه المهام على نحو مرض. واستخدمت هذه الملاحظة على نطاق واسع لكي تقنع السياسيين الأميركيين بضرورة بقاء القوات الأميركية. رابعا: إن الانسحاب سوف يؤدي الى تقوية «المتطرفين» في السياسة العراقية الذين يعارضون السياسة الأميركية والسلام في الشرق الأوسط على حساب «المعتدلين». ويعود معارضو الانسحاب هنا الى النموذج الفيتنامي حيث أدى الانسحاب الأميركي الى انهيار كافة البنى السياسية التي صنعتها القوات الأميركية والى مغادرة الزعماء المتعاونين مع القوات الأميركية البلاد لكي تقع في قبضة «الفيتكونغ». ولقد توقع ديك تشيني، نائب رئيس الجمهورية السابق، في خطاب ألقاه خلال عام 2007 أمام منظمة «ايباك» المؤيدة لإسرائيل في واشنطن مثل هذا المآل لحلفاء الولاياتالمتحدة في بغداد. خامسا: إن انسحاب القوات الأميركية سيؤدي الى انفجار الصراعات الفئوية في العراق. وهذه الصراعات لن تبقى محصورة في الأراضي العراقية بل ستستدرج تدخل القوى المجاورة وتتحول الى حرب إقليمية. دعماً لوجهة النظر هذه يشير مناهضو الانسحاب الى دراسة أعدها باحثان أميركيان تناولا فيها 11 حرباً أهلية جرت في المنطقة مثل لبنان وأفغانستان والصومال وتوصلا فيها الى أن هذه الحروب الأهلية المحلية سرعان ما تحولت الى حروب إقليمية هددت مصالح الدول الكبرى وفي مقدمها الولاياتالمتحدة. ويجدر بالذكر أن المعارضين للانسحاب الأميركي من العراق يشيرون أيضاً الى أن هذا الانسحاب سيرسخ مشاعر الخوف والقلق في إسرائيل ويزيد من احتمال قيامها بتوجيه ضربات مباشرة الى البرنامج النووي الإيراني. وإذ تراجعت إمكانية اللجوء الى هجوم عسكري ضد هذه المنشآت، فان المسؤولين الإسرائيليين عاكفون على التفتيش عن بدائل لهذا النوع من ردود الفعل على الانسحاب الأميركي من العراق. في هذا السياق استحدثت مؤخراً في إسرائيل «هيئة قيادة لحرب إلكترونية» cybercommand ترتبط برئيس الوزراء الإسرائيلي مباشرة للتحضير لشن حرب من هذا النوع ضد إيران. هذه الاحتمالات قد تضر بالمصالح الاستراتيجية الأميركية وتضع الولاياتالمتحدة أمام واقع مربك ويكلف المزيد من التضحيات البشرية والمادية. تلك هي أبرز الحجج التي يقدمها معارضو الانسحاب من العراق، ولكن هذه الحجج تنقصها معالجة إحدى أهم النتائج التي سيتمخض عنها الانسحاب الأميركي من العراق ألا وهي تأثير هذا الحدث على الدور الإيراني في العراق، وردود الفعل الإيرانية على استمرار الاحتلال إذا نجح مشروع «الانتقالية». ويبدو أن هذه المشكلة لا تثير قلقاً واسعاً في واشنطن، وأن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن إيران لن تثير المتاعب في العراق إذا تخلفت القوات الأميركية عن الانسحاب خلال نهاية هذا العام. هذا الاعتقاد يستند الى موقف أصدقاء وحلفاء إيران وفي مقدمهم رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي. فالمالكي طلب من الأميركيين، كما تقول صحف أميركية، بقاء القوات الأميركية في العراق تجنباً لبعض المحاذير التي ينبه إليها مؤيدو «الانتقالية» والتي أشار إليها رئيس الأركان العراقي حول قدرة القوات العراقية المسلحة الحالية على الاضطلاع بمهام الأمن والحفاظ على النظام. وعلى رغم التهديدات القوية التي وجهها الزعيم الديني مقتدى الصدر ضد القوات الأميركية إذا بقيت بعد نهاية هذا العام، وعلى رغم التأييد الشعبي الذي يلقاه الصدر وتلقاه دعوته، فان المالكي يبدو أقرب الى التعبير عن موقف المسؤولين العراقيين والإيرانيين معاً تجاه مسألة استمرار الاحتلال الأميركي في العراق. هذا الموقف يساهم الى أبعد حد في تزكية خيار «القوات الأميركية الانتقالية» وفي بقاء الاحتلال الأميركي لأمد غير محدد في الأراضي العراقية. * كاتب لبناني