كان الجيش الأميركي الأداة الأساسية في اسقاط النظام السابق في العراق، وتولت وزارة الدفاع الأميركية مسؤولية إدارة العراق، وليس الخارجية الأميركية كما هو معتاد، وهذا تطور لافت للنظر، حيث ينتهي دور الجيش بمجرد تحقيق النصر العسكري لتتولى الخارجية مسؤولية إدارة البلاد المحتلة. اتسم أداء البنتاغون في العراق بالتخبط، وكان طلب واشنطن من مجلس الأمن اعتبار وجودها في العراق احتلالاً دليلاً على هذا. وفي غياب سياسة واضحة لعراق ما بعد صدام، ارتكبت القيادة الأميركية الكثير من الأخطاء والخطايا التي سرعان ما أقحمت البلاد في حرب أهلية وتدهور اقتصادي واجتماعي وأمني. لم تكن مهمة القوات الأميركية في العراق واضحة منذ البداية، فإذا كان إسقاط الدكتاتورية هدفاً، فالأسابيع الأولى حققت هذا الغرض. وإذا تصور البعض أن هدفها حماية العراق من اعتداء أجنبي، فمثل هذا التهديد لم يكن قائماً من قبل كافة دول الجوار المعنية. وإذا اعتبر البعض مسؤولية الجيش الأميركي حماية بديل ديموقراطي قائم يحظى بقبول العراقيين، فمثل هذا البديل لم يكن قائماً، بل إن غيابه كان سبباً في انحدار العراق نحو الاقتتال الأهلي والطائفي، بما حول الدور الفعلي للجيش الأميركي الى فك الاشتباك بين مكونات العراق الأساسية وإخماد نيران الحرب الطائفية. ولذلك تحدد دور الجيش الأميركي بالتالي: - تدريب جيش عراقي مهني لتحمل مسؤولية حفظ الأمن. - تسليح الجيش العراقي وسد احتياجاته العسكرية اعتماداً على العقيدة العسكرية الأميركية. - المساعدة في القضاء على قوى العنف المعارضة، شيعية كانت أم سنية. وقد حققت القوات الأميركية قدراً من النجاح في هذا المجال، ولكنها فشلت في اقامة حكم آمن ومستقر، ومع ذلك، بانخفاض ضحايا العنف الى حد بات مقبولاً عراقياً وأميركياً، لم يعد هناك مبرر لاستمرار القوات الأميركية بالحجم الذي كانت عليه، أي ما يزيد عن 150 ألف جندي. وفي المقابل، فشلت الإدارة الأميركية التي كلفها احتلال العراق وإدارته أكثر من ثلاثة تريليونات دولار وما يقارب من خمسة آلاف قتيل وأربعين ألف جريح، في تحويل العراق دولة حليفة ونموذجاً للمنطقة العربية والإقليمية. وانتهت الآمال الأميركية العريضة بنصر سياسي في العراق بوصول الديموقراطيين الى البيت الأبيض، فالرئيس اوباما كان معارضاً للحرب منذ البداية، وتعهد أمام الناخب الأميركي بسحب القوات من العراق، مفضلاً التركيزعلى افغانستان. واستناداً لنتائج استطلاعات الرأي العام الأميركية الأخيرة، فإن ما يقارب ال56 بالمائة من الأميركيين مع الانسحاب، إضافة الى أن الشأن العراقي فقد الكثير من أهميته بالنسبة للرأي العام الأميركي، الأمر الذي يعكس تراجعه في الصحافة الى الصفحات الأخيرة. واعتبر الرأي العام الأميركي الذي يعيش أزمة اقتصادية خانقة، أن الحرب في العراق وأفغانستان استنزفت أميركا مالاً ودماً، وكون أميركا على أبواب انتخابات رئاسية يجعل الانسحاب ورقة رابحة بيد اوباما الذي سوف يلوح بأنه أوفى بوعده. وليس مصادفة أن العراق وأميركا اعتبرتا اكتمال الانسحاب «يوم الوفاء». وفي الوقت الذي تعتبر عناصر جمهورية متشددة الانسحاب أقرب الى الهزيمة، فأوساط الإدارة (رغم شعورها بخيبة أمل لأن انسحابها جاء شاملاً، وليس كما أرادت، بأن يكون لها وجود عسكري من خلال الخبراء والمدربين، حيث حالت عقبة الحصانة دونه) تحاول أن تغطي فشلها بالحديث عن تفعيل الاتفاقية الإستراتيجية الخاصة بالتعاون الاقتصادي والثقافي والإعلامي وغير ذلك من مجالات. ومع ذلك ترى بعض الأوساط الأميركية الرسمية جانباً ايجابياً في الانسحاب، لأنه سوف يحقق هدفاً اقتصادياً مهماً، وذلك بتقليص النفقات العسكرية في وقت يعاني الاقتصاد الأميركي من أزمة خانقة، الامر الذي يخدم حملة الديموقراطيين في انتخابات الرئاسة، كما يسقط ورقة إعلامية وسياسية من يد قوى العنف الشيعية والسنية المتطرفة التي طالما تذرعت بمحاربة الاحتلال. كما يرى بعضهم ان العراق الصعب سيغدو مستنقعاً يكلف إيران ويفقدها الكثير من العطف في أوساط عراقية رأت فيها حليفاً ضد أميركا، كما أن انتقال القوات الأميركية الى قواعد في عدد من دول الخليج سيحرم طهران هدفاً عسكرياً سهلاً في حال الصدام العسكري بينها وبين الولاياتالمتحدة. فراغ الانسحاب وترى واشنطن أن دبلوماسية القوة الناعمة تعوض الى حد كبير وجودها العسكري، وذلك من خلال وجود استخباري هو الأكبر في العالم، حيث يشار الى أن سفارة أميركا في العراق سوف تكون الأكبر في العالم وقد رُصد لها أكثر من ستة بلايين دولار في الميزانية السنوية. أما الخوف من استفادة إيران من أي فراغ يخلفه الانسحاب، فترى الأوساط الأميركية أن تشديد العقوبات والعزلة على إيران كفيل بتحجيم الدور الإيراني في المنطقة خاصة إذا ما نجحت المعارضة السورية في تغيير النظام السوري، الحليف الأكبر لإيران. فحرب النفوذ في العراق لم تنته بعد، وإذا ما كسبت إيران معركة خروج القوات الأميركية، فإن الحرب لا تزال مستمرة ولكن بشكل غير عسكري، وفي أكثر من موقع، ولربما كانت سورية إحدى أهم ساحاتها. لقد تعاملت القوى السياسية المشاركة بالحكم أو خارجه مع الانسحاب الأميركي كورقة ضغط أو ابتزاز، باستثناء الأحزاب الكردية الحاكمة، التي ترى في بقاء القوات الأميركية ضماناً وحماية لها من دول الجوار كافة. تباينت مواقف الأحزاب الإسلامية الشيعية من موضوع الانسحاب بين مستعد لحل وسط وآخر متشدد، إلا أن الضغط الإيراني والتعبئة الشعبية بقيادة التيار الصدري حالت دون أي حل وسط، واستطاع رئيس الوزراء نوري المالكي إمساك العصا من الوسط، بأن رمى الكرة في ملعب البرلمان محملاً أياه مسؤولية اتخاذ القرار، وهو يدرك استحالة تمرير قرار بقاء أي وجود عسكري أميركي ولو كان بصفة مدربين، لرفض القوى الشيعية منح الحصانة الدبلوماسية، الأمر الذي يرفضه الكونغرس الأميركي وليس بمستطاع الرئيس الأميركي تجاوزه. أما القائمة العراقية، فأرادت التهرب من اتخاذ موقف صريح، وذلك بتحميل رئيس الوزراء بصفته القائد العام للقوات المسلحة مسؤولية التوصية ببقاء القوات من عدمه، وتصريحات بابكر زيباري رئيس أركان الجيش، الذي أكد أن الجيش العراقي غير مؤهل لتحمل المسؤولية قبل عام 2020، تم نقضها بتصريحات عسكرية أخرى عن أهلية الجيش لاستلام مسؤولية الأمن الداخلي. ان الدوافع غير المعلنة لكل من الطرفين الشيعي والسني تكمن في عوامل عدة: انقسام الاطراف الشيعية وتعرضها للابتزاز من قبل جماهير التيار الصدري المتأثرة بالموقف الايراني الرافض لأي وجود اميركي في العراق، عبأ الشارع الشيعي ضد البقاء الاميركي. كما أن ممارسات الجيش الأميركي وطريقة تعامله مع العراقيين الشيعة والسنة، تركت انطباعاً سلبياً أفقدها الكثير من حسن الظن، إن لم نقل العداء، خاصة لدى التيار الصدري الذي تعرضت قياداته للاعتقال والاضطهاد، والشعور ذاته كان سائداً في الاوساط العربية السنية التي عانت من الاعتقالات بحجة مطاردة «الارهابيين» والقاعدة. أما على صعيد النخب السياسية، فقد حصل تغير في الادوار، ففي الوقت الذي كانت واشنطن تعتبر نفسها حليفاً للتيار الاسلامي الشيعي، وجدت تحولاً في قواعد هذا التيار لصالح ايران، وبالمقابل موقف اميركا المعادي للسنة العرب تغير لصالح الضغط لمشاركتهم في العملية السياسية، وقدمت من أجل ذلك الكثير من الإغراءات، حتى بات البعض منهم يجد في بقاء القوات الأميركية ضماناً من عدم الهيمنة الشيعية على محافظات العرب السنة، او هيمنة الكرد على كركوك، وطالما فضل ابناء تلك المناطق السجونَ الاميركية على سجون الحكومة العراقية، ولكن مرة اخرى خضوع تلك القيادات العربية السنية للابتزاز من قبل المتشددين السنة ومؤيدي النظام السابق أسقط بيدهم، ما جعل الانسحاب الاميركي الكامل أمراً مفروغاً منه. وتعامل رئيس الوزراء نوري المالكي بحنكة مع قضية الانسحاب الاميركي، فقد كان المفاوض العراقي ناجحاً في اشتراط الانسحاب الكامل بموجب اتفاقية «صوفا» العسكرية، التي نصت على الانسحاب الكامل بنهاية عام 2012. كما ترك المالكي الباب مفتوحاً، محملاً البرلمان المسؤولية، الامر الذي رفع عنه الضغط الاميركي والايراني، ما جعله مرة اخرى على مسافة واحدة من كلا الطرفين معززاً استقلاليته الى حد كبير. تداعيات الانسحاب تكمن تداعيات الانسحاب العسكري الأميركي في الخوف من تفجر النزاعات الطائفية والإثنية، خاصة في ما يتعلق بكركوك والمناطق «المتنازع» عليها في عدد من المحافظات. كما ان اتساع الهوة بين الحكومة المركزية وبالذات المالكي وقيادات المحافظات العربية السنية المطالبة بالاقاليم، قد تدفع الى صدامات مسلحة تهدد استقرار العراق وربما تشجع تدخلاً اقليمياً، خاصة في غياب الوجود العسكري الاميركي. والغياب العسكري الأميركي قد تفسره القوى الممسكة بالسلاح في المركز اوالمحافظات بمثابة فرصة لفرض إرادتها على الآخر، وما تشهده تلك المناطق من اعتقالات واسعة لا تبشر بالخير، فتصاعد حالة الاستقطاب الطائفي والإثني تفرض دينامكية من الصعب توقعها أو وقفها، خاصة أن البعض من قادة المحافظات العربية السنية اخذ يتطلع الى دول الجوار للمساعدة والدعم. * كاتب عراقي