يحتل الكاتب الأميركي جيمس م. كين مكانة متقدمة بين أبرز كتّاب ادب الرواية البوليسية في الولاياتالمتحدة ولا سيما عند أواسط القرن العشرين، كذلك يحتل مكانة مرموقة بين الكتّاب الذين اجتذبهم المال المربح كتّاباً للسيناريو خلال عصر هوليوودي ذهبي، الى جانب زملاء كبار له من طينة ويليام فوكنر ورايموند شندلر وداشيل هاميت وصولاً الى برتولد بريخت (خلال منفاه الأميركي)، وشيروود اندرسون. ومع هذا وعلى رغم ان كين خصّ الفن السينمائي بما لا يقل عن ثلاثة افلام «بوليسية» الطابع، فإنه ابداً لم يحب العمل في هوليوود، ناهيك بأنه من الصعب ان ننظر الى اعماله بوصفها أعمالاً تسير على هدي قوانين النوع البوليسي. كان كين بالأحرى كاتباً اجتماعياً استخدم - أحياناً وليس دائماً - الحبكات البوليسية، لإيصال افكاره. ومن هنا لم يكن صدفة ان يجتذب نصّه الروائي الأكثر شهرة «ساعي البريد يدق الباب دائماً مرتين» ما لا يقلّ عن ثلاثة من مبدعي السينما في اوروبا وأميركا، وفي ازمان مختلفة ليحوّلوه أفلاماً سينمائية نجحت في اجتذاب جمهور كان يتطلب من الفيلم البوليسي ان يكون اكثر من مجرد عمل اثارة وتشويق، كذلك لم يكن صدفة ان يكون جان رينوار، شاعر السينما الفرنسية هو من نصح صديقه - المبتدئ في ذلك الحين - لوكينو فيسكونتي بأن يجعل من تلك الرواية بدايته السينمائية فحقق اقتباساً منها فيلمه «وسواس» خلال الربع الأول من اربعينات القرن الفائت بعدما كان الفرنسي، الملتزم سياسياً واجتماعياً، بيار شينال اقدم على تحقيق فيلم عن الرواية نفسها. وبعد ذلك بسنوات يأتي المخرج الطليعي والمشاكس بوب ريفلسون ليحقق فيلماً جديداً (أميركياً هذه المرة ومن تمثيل جاك نيكلسون وجيسيكا لانغر) عن هذه الرواية. ان اجتذاب هذه الرواية لهذا النمط من المخرجين له اكثر من دلالة. وكذلك الحال بالنسبة الى اختيار مايكل كورتز الذي اشتهر بعدد لا بأس به من الأفلام المميزة ومنها الفيلم الذي اضحى مع مرور الزمن، اسطورياً «كازابلانكا»، رواية أخرى لكين هي «ملدريد بيرس» – التي نحن في صددها هنا - ليحولها فيلماً بات من الكلاسيكيات. ويندرج طبعاً في هذا الإطار نفسه تحويل بيلي وايلدر رواية ثالثة لكين الى فيلم حمل بدوره عنوان الرواية نفسه «تعويض مزدوج»... ويقودنا هذا كله، طبعاً الى التساؤل عما في اعمال كين في شكل عام من جاذبية اضافية اجتذبت ذلك النمط الأرقى من مبدعي السينما... في الحقيقة ان الإجابة عن هذا السؤال يمكن ان تأتي متضمنة داخل اي حديث عن اي عمل لكين، وتحديداً من خلال إمعان هذا الكاتب في ربط مواضيعه «البوليسية» بالواقع والإطار الاجتماعيين للزمن والمكان اللذين تدور فيهما أحداث الرواية. ذلك ان كين وعى ذاته المبدعة والراصدة في الوقت نفسه لما يدور حوله في المجتمع والبيئة الأميركيين، خلال تلك المرحلة التي كشفت فيها الأوضاع الاقتصادية في الولاياتالمتحدة هشاشة «الحلم ألاميركي» خلال ثلاثينات القرن العشرين حين حلّت الكارثة الاقتصادية رامية ملايين الأميركيين في وهدة الجوع ومُنزلة طبقات بأسرها الى الحضيض. طبعاً لم يكن كين الوحيد بين الكتّاب الأميركيين الذي تعامل في ادبه مع ذلك الواقع. لكنه كان واحداً من قلة غاصت عميقاً في التأثير السلوكي والسيكولوجي لذلك الحدث المريع في تاريخ أمة بنت واقعها وتصوّرها وعلاقاتها اليومية العائلية والفردية على ذلك الحلم، فإذا بكل شيء ينهار ما إن انقلب الحلم كابوساً. وفي روايته «ملدريد بيرس» عرف كين كيف يصور ذلك التأثر انطلاقاً من اصغر خلية في المجتمع وصولاً الى تعميم متضمّن... بل قد نقول أيضاً انطلاقاً من الصراع الداخلي بين الفرد وذاته. وطبعاً هذا الفرد هو هنا السيدة ملدريد بيرس نفسها التي تكاد حكايتها ان تكون حكاية الحلم الأميركي في ظهوره ثم تألقه وصولاً الى انهياره، انما من دون ان يزعم الكاتب أن هذا البعد «الأيديولوجي» كان التعبير عنه غايته من كتابة هذه الرواية في عام1941، اي تحديداً بعدما كانت الكارثة الاقتصادية/الاجتماعية قد ولت بفضل سياسة خلاقة حققها الرئيس روزفلت. والحال ان كين لم يشأ الوصول في «تاريخه» الى نقطة الأمل واستعادة الحلم بفضل روزفلت، فهو لم يكن مؤرخاً بل كان مبدعاً همّه تصوير شخصياته في علاقة حياتهم وما يحدث لهم مع بيئتهم. وهذا ما نجح فيه. لقد قلنا ان الرواية تدور من حول شخصية السيدة ملدريد بيرس التي تحمل اسمها. غير اننا اذا تحرينا الأمور في شكل اعمق فسنجد امامنا شخصية اساسية في الرواية لا تقل اهمية عن الأولى وإن كانت اقل حضوراً منها بكثير. ونعني هنا شخصية فيدا بيرس الإبنة المراهقة لملدريد التي تتبقى لها بعد الموت المؤسي لابنتها الأخرى راي. وما حبكة الرواية سوى الصراع الخفي اولاً، والمحتدم بالتدريج بعد ذلك، بين الأم والأبنة... وهو صراع سيخلقه الفراغ العائلي وغياب الأب ووحدة الأم التي اذ يتركها الطلاق وحيدة من دون معين حقيقي تجد لزاماً عليها بعد الانهيار، ان تعيد بناء حياتها من جديد وانطلاقاً مما يشبه الصفر. وفي الوقت الذي تبدأ احداث الرواية وشخصياتها والعلاقة بين هذه الشخصيات بالتبلور يكون ذلك البناء العصامي لا يزال ممكناً حيث ان الحلم الأميركي (بأقنوميه العصامية المبدعة والنجاح السهل) لم يكن قد انهار بعد امام هجمة الواقع الاقتصادي. وهكذا بمساعدة الأصدقاء تتمكن ملدريد من بدء سلوك درب النجاح خالقة مشروعها الخاص الذي يكبر ويكبر حتى تصبح السيدة الطموح ملكة الفطيرة غير المنازعة، اذ تتفنن في صنعها وتبيعها ولا سيما في مطعم اول تفتتحه وتلحقه بمطاعم أخرى قبل ان تخوض في بيع الخمور إثر رفع الحظر الحكومي عنها... وهي بعد ذلك تمعن في تطوير مشروعها ودائماً بدعم من الأصدقاء الذين يبرز من بينهم في حياتها الآن، زوجها السابق بيرت بيرس من ناحية، ومن ناحية أخرى مونتي بيراغون، الشاب الثري الذي سيصبح بعد حين عشيقها، ووالي شريكها السابق في العمل الذي سيبقى مخلصاً لها ومحباً... إزاء هذه الصحبة كان في امكان ملدريد ان تمضي بحياتها من دون عداوات حقيقية... ولكن ابنتها تكون لها دائماً بالمرصاد، حتى وإن كنا سنلاحظ في المقابل كم ان ملدريد ستجابه تمرد ابنتها بود وتفهّم وحب. والواقع ان هذه المعادلة كان يمكن ان تسلك طريقاً عادياً لتصل الى غاية منطقية لولا ان المراهقة تقع في شباك الفتى الثريّ عشيق امها مونتي، ما يعقد الأمور ويقلب حياة ملدريد ونجاحها رأساً على عقب... ومن الواضح هنا ان الغيرة والتنافس بين الإبنة والأم هو ما دفع الأولى الى الارتباط بمونتي... في علاقة لن تنتهي الا بمأساة، اذ ان فيدا ستقدم ذات لحظة على قتل مونتي... اما الأم فإنها هي التي تتحمل وزر ما حدث في وقت يبدأ فيه مشروعها – اي حلمها الأميركي – بالضمور حتى يختفي وتبقى هي وحيدة فقيرة عجوزاً أضاعت كل شيء. لقد حققت الرواية، على سوداويتها، حين صدرت، نجاحاً كبيراً زاد من حجمه تحقيق مايكل كورتيز فيلمه المقتبس عنها والذي نال يومها ست جوائز اوسكار من بينها اوسكار افضل فيلم لعام 1945. واليوم ها هي الرواية تعود الى الحياة من جديد من خلال اقتباس تلفزيوني في مسلسل من ست حلقات انتجته وعرضته اوائل هذا العام 2011 شركة «اتش بي او» من اخراج مميّز للسينمائي تود هاينز ومن بطولة كيت وينسلت وإيفان ريتشل وود. ولا يزال هذا المسلسل حديث المشاهدين، ما اعاد ذكر الفيلم القديم ولكن ايضاً ادب جيمس م. كين في شكل عام. ولد كين في آنابوليس في ولاية ميريلاند الأميركية عام 1892 ورحل عام 1977 وهو عرف صحافياً ثم كاتباً روائياً ومبدعاً في القصة القصيرة. وكان ذلك اضافة الى عمله لفترة في هوليوود كاتب للسيناريو. وعلى رغم الطابع الاجتماعي والإنساني لرواياته، فإن تاريخ الرواية البوليسية يصنّفه واحداً من مبدعي الأدب المفرط في قسوته. ومن ابرز اعمال كين، الى ما ذكرنا، «سيرينادا» و «المعهد» و «زوجة الساحر» و «الفراشة». [email protected]