كان يعرف أنه يتألم كثيراً... لكنه لم يكن يعرف أن آلامه لن تنتهي إلا بموته. ومن هنا، حين اشتغل المخرج الفرنسي آلان كورنو على فيلمه الأخير (والمعروض حالياً) «جريمة حب»، شاءه - ولكن لم يشأه كثيراً - أشبه بوصية له. بالأحرى عودة منه الى سينما التشويق الإجرامية التي صنعت مجده السينمائي طوال ما يقرب من ثلث قرن. أي منذ ترك «مهنته» كمساعد لكوستا غافراس، لا سيما على فيلم «الاعتراف» البوليسي/ السياسي، ليتجه الى الإخراج بادئاً مسيرته بفيلم بوليسي مقتبس من «هاري القذر» وسيظل كورنو يقول دائماً إن لقاءه ايف مونتان في بلاتوه «الاعتراف»، واعجابهما معاً بفيلم «هاري القذر» هو ما دفعه الى خوض الإخراج... ومنذ اللحظة التي وافق فيها مونتان على العمل تحت ادارته. منذ ذلك الحين أدار كورنو مونتان غير مرة، لكنه أدار غيره من نجوم السينما الفرنسية. وفي الوقت نفسه صار هو نجماً من نجوم الإخراج في هذه السينما، حتى وإن لم يتكرر حضوره في المهرجانات العالمية ممثلاً لها، وحتى وإن كان قد آثر دائماً أن يبقى في الظل منكباً على عمله مخرجاً وكاتباً، وأحياناً ممثلاً... وفي معظم الأحيان مختاراً لموسيقى أفلامه - الجاز الذي أحبه دائماً -. أما أفلامه فلم تكن دائماً بوليسية حتى وإن صُنِّف كورنو دائماً مخرجاً بوليسياً، أو تشويقياً بالأحرى على النمط الهتشكوكي. فالحال أن الذروة في فيلموغرافيا كورنو تبقى بفضل فيلمين له، غير بوليسيين: أولهما «حصن ساغان» عن رواية شهيرة للوي غارديل، تدور أحداثها في حصن كولونيالي صحراوي، بين موريتانيا وجنوب الجزائر، وثانيهما «كل صباحات العالم» عن رواية موسيقية لباسكال كينيار، أحد كتّاب الموجة الأحدث في الرواية الفرنسية، عن عازف من القرن الثامن عشر يستعيد ذكرياته. واللافت هنا هو أن هذين الفيلمين - غير البوليسيين - هما اللذان حققا لكورنو مجداً مهرجانياً وجوائزياً: فالأول عرض في احدى دورات مهرجان «كان» وحقق نجاحات نقدية وجماهيرية عريقة، فيما تمكن الثاني من أن ينال سبع جوائز سيزار (المعادل الفرنسي للأوسكار الأميركي)، ورشح لفوز كبير - لم يحققه على أية حال - في الغولدن غلوب ومهرجان برلين. بعيداً من التشويق ومع هذا، تظل لكورنو سمعته الكبيرة كواحد من أفضل مخرجي أفلام التشويق في السينما الفرنسية، وهي السمعة التي عززها فيلمه الأخير «جريمة حب»، وكاد يمر مرور الكرام لولا وفاة مخرجه في هذا الوقت بالذات، ما جعله وفيلمه الأخير طبعاً، حديث الصحافة والأوساط السينمائية الفرنسية. والحقيقة إذا استثنيا «حصن ساغان» و «كل صباحات العالم» فسنجدنا في فيلموغرافيا كورنو أمام متن سينمائي يتراوح بين أفلام الجريمة وأفلام التشويق، مع اطلالات تكاد تكون انثروبولوجية (على الهند من خلال أفلمته لرواية انطونيو تابوكي الشهيرة «ليل هندي»، وعلى اليابان من خلال رواية اميلي نوثومب المعروفة «خف ورجفان»). ومن بين أفلام كورنو الأكثر شهرة في هذا المجال فيلم «التهديد» من تمثيل ايف مونتان، الذي صوّر جزؤه الأخير في كندا، مع انه لم يكن يحتاج الى هذا حتى يبدو فيلماً أميركياً. ذلك أن عقدة الفيلم البوليسية وأجواءه وعوالمه و «قدريته» تكاد كلها تكون هوليوودية بامتياز، وهو نفس ما يمكن أن يقال عن «السلسلة السوداء» (الذي عرض بدوره في مهرجان «كان» عام 1979)... وهو فيلم اختار كورنو لبطولته نجمين كبيرين في السينما الفرنسية، سرعان ما مات كل منهما: باتريك ديفاير، لا سيما ماري ترنتينيان (ابنه جان - لوي، ونادين ترنتينيان، التي صارت امرأته منذ ذلك الحين وظلت كذلك الى النهاية). ويومها أتى «السلسلة السوداء» تالياً لفيلم كورنو الأول «بوليس بيتون 357» (المقتبس كما قلنا من «هاري القذر». أما في عام 1984، فإن كورنو تمكن من جمع صوفي مارسو وجيرار ديبارديو لبطولة «حصن ساغان» الذي يعرف بكونه أكثر الأفلام الفرنسية مدخولاً في ذلك الحين، إلاّ انه الفيلم الذي جعل كورنو مذّاك، واحداً من أكثر السينمائيين الفرنسيين حديثاً عن الكولونيالية ودفاعاً عن الشعوب التي اكتوت بنارها. وهو موقف أكده بدوره حين أبدى اهتمامات كثيرة بشعوب الشرق (ومنها الشعوب الإسلامية) التي حين سئل بعد أحداث 11/9/2001 عنها، قال بكل وضوح، انه شديد التعاطف مع هذه الشعوب ويفهم غضب الشعوب المسلمة على الغرب، لكنه لا يفهم كيف ان الغرب يتهم كل المسلمين بالإرهاب، مع ان المجتمعات العربية والمسلمة التي تؤيد هذا الإرهاب أو تسكت عنه لا تتعدى ال 4 في المئة من مسلمي العالم! امرأتان مهما يكن، وعدا عن موقف من هنا أو موقف من هناك، لم يكن آلان كورنو أبداً من المخرجين الذين يرون ان السياسة يجب أن تكون لها مكانة كبيرة في أفلامهم... شهدت على هذا أفلامه السابقة... ولكن كذلك وفي شكل خاص، فيلمه الأخير «جريمة حب». وهذا الفيلم - من دون أن يعتبر تحفة سينمائية (نادرة هي أفلام كورنو التي يمكن أن تحظى بمثل هذا النعت) -، يعتبر من الانتاجات السينمائية الفرنسية الجيدة... ويكاد عالمه يلخص القوانين السينمائية التشويقية (التي استقاها كورنو من أجواء المعلمين الكبيرين ألفريد هتشكوك وفريتز لانغ، من دون ان ننسى ما يدين به، هنا، لمواطنه كلوزو، لا سيما في «الشياطين» عن رواية بوالو - نار سيجاك)... إذ هنا لدينا ذلك الاستخدام المتقشف، لأقل عدد ممكن من الشخصيات، وما يمكننا اعتباره وحدة الزمان والمكان، الى جانب العالم «التلميحي» - حيث معظم الأمور تقال في شكل موارب، ما يشرك المتفرج حقاً في وضع أسس الموضوع وتوقع الحبكة المفاجئة - ناهيك بالتجاور الخلاق بين الموت (الجريمة) والجنس (المحظور)، ولعبة التلاعب بين السيد (السيدة) والعبد (العبدة)، حيث ان الفيلم كله انما يتمحور حول ثنائي أنثوي تمثله كريستين سكوت توماس، ولودونين سانييه. الأولى سيدة أعمال تدير فرعاً فرنسياً لشركة عالمية، والثانية مساعدتها وتلميذتها. والحبكة هي حكاية الصراع الخفي - ثم المتضح بالتدريج - بين المرأتين، في تدرج لانفراط العقد، المهني والحميم، بينهما -. لن نقول هنا كيف ينتهي الصراع وإن كنا نعرف - من العنوان على الأقل - ان في الأمر جريمة. سنقول فقط ان آلان كورنو عرف كيف ينهي حياته - المهنية بالتوازي مع الجسدية - كما بدأها: على الطريقة الأميركية. ولعل هذا خير ما يمكن فناناً نزيهاً، متكتماً دؤوباً أن يفعل.