إذا استثنينا بعض أبرز أفلام ألفريد هتشكوك وفريتز لانغ وغيرهما من كبار محققي الأفلام البوليسية والتشويقية، في سينما هوليوود، يمكننا أن نقول إن العدد الأكبر من أفلام هذا النوع انما أتى مقتبساً من روايات سبق نشرها أفلمتها. ذلك أن الفن السابع، وخلال العقد الأول من عمره، بدايات القرن العشرين، بدا على رغم صمته، وكأنه فن ولد ليصوِّر الحكايات المملوءة بالمجرمين والقتلى. بل لربما كان صمت السينما، عاملاً أساسياً في اهتمامها بأدب شعبي يقوم على الحركة أكثر كثيراً مما يقوم على الحوارات. في اختصار، إذاً، عرفت الآداب البوليسية طريقها الى الشاشة الكبيرة، بسرعة... وكثافة تمكننا من أن نؤكد اليوم، بعد أكثر من مئة عام، أنه من النادر أن تطالعنا رواية بوليسية أو اجرامية لم تتحول الى فيلم. بل ثمة روايات منها حُققت مرات عدة وفي لغات وبلدان عدة. فهل نضيف أن هذا اللون عرف دائماً من النجاح ما جعله أثيراً لدى السينمائيين، بخاصة أنه كان - ولا يزال - دائماً صنواً للسينما الذكية المشوقة، والمثيرة لفضول المشاهد؟ وهل نضيف أيضاً، ان عدداً لا بأس به من أفلام الموسم السينمائي العالمي الجديد، كما حال كل موسم، أفلام بوليسية في شكل أو آخر؟ نقول هذا أو نفكر طبعاً بأعمال تتراوح بين «نبي» للفرنسي جاك أوديار، و «أعداء الشعب» لمايكل مان (اللذين سبق عرضهما إما في الصالات أو في المهرجانات)، وبين «شرلوك هولمز» في مغامرته الجديدة، و «جزيرة شاتر» لمارتن سكورسيزي عن رواية للكاتب المعاصر دنيس لاهان. والحقيقة أن استعراضاً لهذه الأفلام الأربعة، كفيل بأن يضعنا أمام أربعة من الفروع الأساسية لهذا النوع، الذي لا بد من أن نقول إنه نوع ذو فروع عدة. إذ هناك فيلم العصابات، وفيلم التحقيق في جريمة، وفيلم الرعب البوليسي الخالص، وحتى الفيلم البوليسي السيكولوجي، في انتظار اطلالة لفيلم أو فيلمين يتناولان حكاية السفاحين (القتلة بالجملة) وما شابه. فروع وأنواع وهذا التنويع يقودنا، منطقياً، الى القول إن النوع البوليسي يتفرع الى كل هذه الأنواع، من دون أن يتحدّ في واحد منها، على رغم ان كثراً من نقاد النوع ومؤرخيه، طالبوا أحياناً بأن يعطى كل نوع استقلاليته. لكن الذين اعترضوا على هذا، كانت حجتهم الدائمة هي اننا لو شئنا منح هذا الاستقلال لوجدنا أنفسنا أمام عشرات الأسماء والفروع وفروع الفروع. ولم يكن هذا السجال الوحيد في هذا المجال، فالاسم الإجمالي نفسه كان ثمة خلاف دائم من حوله، حتى كان ما يشبه الاستقرار في النهاية على «الفيلم الأسود» Film Noir. وهو اسم حملته في فرنسا سلسلة روايات بوليسية شعبية، فاستطابه أهل النوع في شتى اللغات، واستخدموه في صيغته الفرنسية تحديداً، من دون أن يعني هذا ان الفرنسيين هم مبتكرو النوع، لا أدباً ولا أفلاماً. وتعزى البداية الأدبية للنوع الذي حمل قوانين الرواية أو القصة البوليسية، الى ادغار آلن بو، حتى وإن كان في الإمكان العثور على سمات «بوليسية تحقيقية إجرامية» كثيرة في روايات تنتمي الى ما قبل زمن آلن بو، بل حتى الى العصور الوسطى. غير ان هذه تعتبر اليوم ارهاصات ما - قبل - تاريخ النوع. أما مع ادغار آلن بو، فإن الأدب البوليسي التشويقي عرف بداياته الشرعية. ومن هنا لم يكن غريباً أن تُقدم السينما الأميركية، عند بداياتها، وحين اكتشفت ان لديها امكانات حقيقية لنوع بوليسي متنوع، على اقتباس عملين أساسيين من أعمال ادغار آلن بو، وهما «جرائم في شارع مورغ» و «سقوط منزل آل آشر». ولم تكف السينما منذ ذلك الحين عن اقتباس هذين العملين. غير انهما لم يكونا، على روعتهما، سوى نقطتين في بحر لجوء السينما الى هذا النوع من الأدب. وهو لجوء، سرعان ما انعكس طوال القرن العشرين، في ازدهار كتابة هذا النوع وفروعه، وصولاً الى أعمال كبيرة نوعت عليه على مستوى الأدب الكبير، كما على مستوى السينما الكبيرة. قد يكون في الامكان هنا ايراد اسمين: لوكينو فيسكونتي، الذي حين بدأ أوائل اربعينات القرن العشرين، تيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، اختار أن يقتبس رواية بوليسية اميركية شهيرة (هي «ساعي البريد يدق الباب دائماً مرتين» لجيمس كين) كأساس لفيلم اجتماعي - بوليسي - لا يزال حياً حتى اليوم، وأومبرتو ايكو، الذي حين قرر التحول موقتاً من الكتابة العلمية الألسنية، الى الكتابة الروائية، كتب رائعته «اسم الوردة» التي، هي أصلاً رواية تاريخية تدور أحداثها في دير في القرون الوسطى، لكنها - أكثر من هذا - رواية بوليسية تنتمي الى عوالم شرلوك هولمز. ويقيناً أن جانبها البوليسي هذا هو الذي راق لجمهور السينما العريض، حين أفلم الفرنسي جان - جاك آنو، الرواية. في كل مكان والحقيقة أننا ما أوردنا هذين النموذجين إلا للإشارة الى أن ليس من حق أحد أن ينظر باستخفاف الى هذا النوع... ويمكننا أن نضيف هنا أنه إذا كان ألفريد هتشكوك يعتبر صاحب مكانة أولى في سلّم تراتبية مخرجي السينما في كل مكان وزمان، فإنما يعزى الفضل في هذا الى تزعمه السينما البوليسية/ التشويقية/ الإجرامية، ونهله، بين الحين والآخر من أعمال أدبية في هذه المجالات. بعد هذا، هل يمكننا حقاً، ان نضع لائحة بالأعمال «البوليسية» التي اقتبستها السينما في أفلامها؟ مستحيل، لأن مثل هذه اللائحة ستضم ما يقارب العشرة آلاف فيلم... وهو عدد لا يقل إلا قليلاً عن عدد الروايات والقصص البوليسية التي صدرت منذ فجر الكتابة. في هذا الإطار من الصعب أن نقول إن ثمة سينما بلد ما، تتميز عن سينما بلد آخر. ففي كل السينمات وفي كل اللغات، توجد أعمال كثيرة تنتمي الى النوع وفروعه... بل حتى ثمة أفلام قد لا تبدو، للوهلة الأولى منتمية اليه، سنغير رأينا في ذلك لو تبحرّنا فيها. ف «المغامرة» لأنطونيوني، وبعض أفلام برغمان، وجزء أساس في سينما فيلليني وتاركوفسكي، ليست أفلاماً بوليسية، للوهلة الأولى فقط. ولكن، قبل أن يخيل الى القارئ ان كل فيلم من أفلام تاريخ السينما فيه جانب بوليسي ما، نسارع الى القول إن ما نود الحديث عنه، انما هو تلك السينما البولسية (فيلم نوار) الخالصة، والتي اغتنت السينما بالنهل فيها في شكل واضح وصريح، من الأدب البوليسي (رومان نوار)... وهذه السينما لها أسماء مخرجين محددين، ولكن أيضاً أسماء كتّاب محددين، لعل أشهرهم، ان وضعنا جانباً قيماً راسخة ما - قبل - سينمائية (أغاثا كريستي، آلن بو نفسه، سير آرثر كونان دويل، موريس لوبلان - صاحب ارسين لوبين -)، رايموند تشاندلر وداشيل هاميت (راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة)، الكاتبان الأميركيان الكبيران اللذان جرا وراءهما سلسلة طويلة عريضة من كتّاب أميركيين، وغير أميركيين ينتمون الى القرن العشرين وربطوا أنفسهم بعلاقات واضحة مع السينما، من جيمس كين وإريك آمبلر وإد ماكبين وهوراس ماكوي، الى جيمس الروي وباتريشيا هايسميث (التي حقق اللبناني الراحل مارون بغدادي فيلماً تلفزيونياً مدهشاً، عن واحدة من قصصها)، وجورج سيمينون (الفرنسي/ البلجيكي الذي يدين له فن السينما بأكثر من 200 فيلم حققت عن نحو 150 رواية له في بلدان عدة) وبوالو - نارسجاك، الثنائي الفرنسي، الذي وصلت أعماله الى خارج حدود فرنسا، وصاحب رواية «من بين الأموات» التي تحولت على يد ألفريد هتشكوك الى واحد من أعظم أعماله («فرتيغو»). فهل علينا هنا أن نستطرد لنتحدث عن مرحلة ما من حياة وانتاج كاتب كبير مثل ويليام فولكنر، او حتى ارنست همنغواي...؟ الليل المرأة والمدينة قلنا أعلاه إن من المستحيل وضع لائحة نهائية. ولكن، في المقابل، قد يكون ممكناً، الآن، بعد هذا الحديث، التوقف عند فروع أساسية للنوع نفسه لنجملها كما يلي، في ارتباطها مع صورتها السينمائية، ما قد يلقي ضوءاً كاشفاً وأساسياً على «سرّ» العلاقة، الوثيقة الى حد مدهش، التي قامت بين «الأدب البوليسي» بكل تنويعاته، وفن السينما، بكل تنويعاته أيضاً. فإذا كان هناك الفيلم والأدب البوليسي في شكل عام، فإن هناك الفيلم والأدب الإجرامي الذي يقوم على جريمة مطلوب التحقيق فيها، وهذا هو النوع الأكثر رواجاً ونجاحاً، والذي، إذا كان وجد بداياته في أدب ادغار آلن بو، فإن علاماته الأساسية، أدباً كانت أو أفلاماً، ظلت تحمل أسماء شرلوك هولمز وبوارو، ثم قسيس تشسترتون، القسيس براون، قبل أن تصل الى سام سباد (لدى داشيل هاميت) وكابتن ميغري (لدى سيمنون) ومارلو (لدى رايموند تتشاندلر)... وغيرهم. في ظل هذا النوع يأتي أدب وأفلام القتلة بالتسلسل، السفاحين، الذين ساروا دائماً على خطى جاك سفاح لندن، ليصلوا ذروة خلال الموسم السينمائي الفائت وقبل الفائت مع «زودياك» دافيد فينشر، وحلاق تيم بورتون («سويني»). وهناك حكايات المجرمين المشهورين (آل كابوني، وديلنغر... الخ) من الذين انطلقوا من الواقع، الأميركي خصوصاً، ليصلوا الى الأدب ثم الى السينما. وهؤلاء يمكن أن نضيف اليهم الفرنسي جاك مسرين، الذي حُقِّق فيلمان عنه، العام الفائت في فرنسا. أما كابوني، فيبقى فيلم هاوارد هاوكس «سكيرفيس» عنه، واحداً من قمم النوع، حتى وان كان ينافسه آخر بالعنوان نفسه، مع اختلاف في التفاصيل، حققه دي بالما قبل سنوات من تمثيل آل باتشينو، علماً أن ديلنغر هو «بطل» «أعداء الشعب، رائعة مايكل مان من بطولة جوني ديب. ويبقى هنا، الجانب الآخر من الموضوع: ما الذي يفتن في السينما البوليسية المستقاة من أدب النوع وتنوعاته؟ التشويق في الدرجة الأولى... وفي الدرجة الثانية، كما يقول هتشكوك دائماً: حب التلصص على حيوات الآخرين وربما على مآسيهم، من مقعد آمن. ثم هناك المناخ: المدينة الليلية غالباً، المرأة الفتاكة، المطاردة، لعبة التورية، الثأر للضحية. ولكن أكثر من هذا كله، تلك السلطة القائمة على الذكاء والمعرفة، والتي يتمتع بها التحري... أو من يكشف النقاب عن الحقيقة في نهاية الأمر. غير أن هذه كلها ليست سوى بعض العناصر، ذلك ان الأدب البوليسي - الوالد الشرعي للسينما البوليسية - يكاد في تنويعاته وتفرعاته، يطاول كل الأنواع الأدبية، غوصاً في الزمن حتى الإلياذة وربما غلغامش أيضاً. ولا شك في ان التعمق في هذا يحتاج دراسات طويلة لا يتسع لها المكان هنا... فيما يتسع للإشارة الى أهم ما نقوله، إن النوع البوليسي، ربما يتمتع بميزة تجعله نوعاً لا يغيب حتى ولو غابت بقية الأنواع. * الأسبوع المقبل: جواسيس، مخربون وحالات ضمير