عندما انتهى المخرج الأميركي فرانك كابرا من كتابة مذكراته، بعد أكثر من أربعين عاما قضاها في العمل السينمائي في هوليوود، وجلس يفكّر في العنوان الأنسب للكتاب الذي سيضم المذكرات، لم يستغرقه التفكير في الأمر طويلاً. سيكون العنوان المنطقي بالنسبة اليه «الاسم فوق العنوان». والذريعة كانت أن كابرا يعتبر نفسه واحداً من أوائل المخرجين الأميركيين الذين فرضوا على الأستديوات ان يوضع اسمهم فوق عنوان الفيلم لا تحته - كما جرت العادة - على ملصقات الفيلم. طبعاً لا يعني هذا بالنسبة إلينا أن كابرا كان من أعظم المبدعين في تاريخ الفن السابع ، لكنه يعني بالتأكيد ان هذا الهوليوودي من أصول ايطالية عرف كيف يحافظ لفنان السينما على كرامته ومكانته. والحقيقة انه مهما كان رأي نقاد السينما ومؤرخيها في معظم أفلام كابرا التي يغلب عليها الطابع التجاري الخفيف، فإن الرجل عرف كيف يترك في تاريخ هذا الفن علامات تستحق التكريم دائماً، لشعبيتها وبساطتها. ولعل ابرز تلك العلامات وأفضلها فيلمه «إنها حياة رائعة». غير ان ثمة فيلمين على الأقل من إبداع هذا المخرج، لا يقلان شهرة او مكانة عن هذا الفيلم، بل يفوقانه اهمية من الناحيتين السياسية والأخلاقية، وهما «مستر ديدز يذهب الى واشنطن» و «مستر سميث يذهب الى المدينة». وهذان الفيلمان معاً، ينتميان الى النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين، اي الى حقبة زمنية وصل فيها كابرا الى أوج شهرته عبر سلسلة أفلام ارتدت طابعاً سياسياً، ويُنظر اليها عادة على انها المعادل الفني/ السينمائي للنهضة الاقتصادية - وبالتالي السياسية - التي بعثها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت لدى الشعب الأميركي، بالتوازي مع تمكينه هذا الشعب من الانتصار على الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي ضربته منذ انهيار البورصة المريع في خريف العام 1929 وأوصلت الطبقات المعدمة والوسطى الى الحضيض. يومها نهض روزفلت وانتهج سياسة إصلاح وتفاؤل سمّيت بسياسة «الصفقة الجديدة»، وكانت هي ما أوقف الشعب واقتصاداته على الأقدام، ليستعيد النظام العام مساره الى الأعلى ويعم التفاؤل البلاد. والحال ان ما يمكننا الإشارة اليه في هذا المجال، هو ان البعد الأساس في السياسة الجديدة التي اتبعها روزفلت كان بعداً أخلاقياً معنوياً، او كان هذا، على الأقل، البعد الذي التقطه وفهمه عدد كبير من المفكرين والمبدعين الذين كان لوقوفهم الى جانب روزفلت دور كبير، وربما أساسي، في النجاح الذي حققه هذا الرئيس. وكان فرانك كابرا واحداً من هؤلاء، ولنقل إنه كان – من بينهم - الأكثر تبسيطية في فهم الأمور والتعبير عنها في الفيلمين اللذين نتحدث عنهما. فمَن يستطيع القول إن تبسيطية من هذا النوع لن تكون موضع ترحيب وذات فاعلية مطلقة في لعب دور اجتماعي كبير في ظروف مثل تلك التي كان يعيشها الشعب الأميركي في ذلك الحين؟ ومع هذا، علينا ان نلاحظ أن اياً من الفيلمين لا يتنطح الى الحديث المباشر عن الأزمة في حد ذاتها. موضوع كل من الفيلمين يبتعد عن هذا الحديث المباشر بشكل او بآخر. هو، وفي كلّ من الفيلمين، بشكل يتقارب حيناً ويتباعد حيناً، موضوع يغوص بالأحرى في ما هو ابعد من ذلك. يغوص في عمق ما يسمّى عادة الحلم الأميركي، ليرينا كم ان اصحاب هذا الحلم بنوه على مستويات أخلاقية ونزعات تفاؤلية وسعي الى النجاح بشكل قد يكون فردياً في تجلّياته الأساسية، لكنه جماعيّ في جوهره، يقوم على مفاهيم التضامن والدأب واستخدام النصّ (الدستور والقوانين هنا، وربما الكتاب المقدس ايضاً) لدعم الأفكار الإصلاحية. في الفيلمين معاً تلعب الكلمة بالتالي دوراً رئيسياً في الوصول الى ما يبتغى الوصول اليه. ونحن هنا لسنا بعيدين بالطبع عن الأحلام والأفكار المؤسسة للحلم الأميركي. وهي الأفكار التي يقترح كابرا بكل بساطة – وربما أيضاً بكل ديماغوجية شعبوية اذا اردتم – استنهاضَها واللجوء اليها اذا كانت مصلحة الأمة تتطلب ذلك. وهذه المصلحة، متجاوزة الانقسامات المجتمعية والسياسية، أعاموديةً كانت او أفقية، تتطلب ذلك دوماً. ومهما يكن من أمر هنا، لن يعني بدؤنا الحديث عن هذين الفيلمين بهذه الصيغة الأيديولوجية، ان كل ما في الفيلمين وعظيّ مدرسيّ، بل ان الأمر على العكس تماماً، فنحن في الحقيقة هنا في صلب السينما، بل السينما الأكثر جماهيرية وترفيهية. وذلكم هو في الواقع سرّ نجاح فرانك كابرا في مشروعه «الروزفلتيّ» هذا، فهو انما لجأ قصداً بالتأكيد الى كل عناصر السينما الجماهرية من نظام النجوم (أبطال كل من الفيلمين كانوا يحملون اسماء جيمس ستيوارت وغاري كوبر وجين آرثر وكلود رينز، وكلهم كانوا من ابرز نجوم المرحلة)، الى التسويق نفسه كما اسلوب الإنتاج والإخراج الذي كان هوليوودياً. ناهيك بحبكة السيناريو وعنصر التشويق والإثارة وما شابه ذلك. في هذا الإطار، واضح اننا في الفيلمين معاً وسط الإطار الهوليوودي فنياً وتجارياً. اما من الناحية الفكرية، فإننا داخل الأطار الإميركي الأوسع. وطبعاً يمكننا ان نقول هنا إن فناناً بسيطاً مثل كابرا، لم يكن ليدرك كل هذه الأبعاد النظرية، بيد أنه حين «اكتشفها» لاحقاً في كتابات النقاد والمؤرخين في فيلميه هذين (وربما في أفلام له أخرى)، تبناها تماماً لتصبح جزءاً اساسياً من خطابه السينمائيّ! بعد هذا كله، حان الوقت لنقول ما هي الحكاية في كلّ من الفيلمين: أول هذين زمنياً كان «مستر ديدز يذهب الى المدينة»، وحققه كابرا في العام 1936. والفيلم في شكله الخارجيّ كوميدي الطابع يدور من حول قضية المواطن الأميركي العادي والبسيط مستر ديدز (كوبر)، الذي يحدث له ذات يوم ان يرث 20 مليون دولار، فيتجه من فوره الى المدينة واقعاً تحت مطاردة صحافية حسناء من الواضح بداية انها امرأة من دون ضمير أخلاقي يردع لديها «ضميراً مهنياً»، وتضع الصواب جانباً حيت تتطلب المهنة ذلك. لن نسترسل هنا في رواية الحكاية، لأن ليس ثمة في هذا الفيلم حكاية بالمعنى التقليدي للكلمة. كلّ ما في الفيلم سباق بين المال والأخلاق ، وبالتالي بين الريف والمدينة، وبالتالي استطراداً بين سلوك اميركا الأعماق وفساد الانفتاح الحضاري الذي هو من سمات الأخلاق المدينية .اما الفيلم الآخر «مستر سميث يذهب الى واشنطن»، فيبدو اكثر عمقاً وأهمية، على رغم انه هو الآخر يدور من حول الريفي البسيط، إذ ينزل الى المدينة. غير ان المدينة في هذا الفيلم الذي حققه كابرا في العام 1939، أي بعد ثلاث سنوات من الفيلم السابق، ليست شريرة في حد ذاتها، بل ليست هي الموضوع – كما هي الحال في السابق -، وذلك بالتحديد لأن البطل هنا (ستيوارت)، ينزل الى المدينة – وبالتحديد الى مجلس النواب وسط العاصمة الأميركية - كي يدافع عن قضية بيئية اجتماعية. من هنا فيما تكون قضية الفيلم الأول ايديولوجية تقف في التناقض مع «حقيقة الحلم الأميركي» تصبح في الفيلم الثاني مكاناً لا أكثر، بل مكاناً يحمل الخلاص للريف، وبشكل محدّد من خلال حق النائب في الكلام الذي هو هنا سلاح الخيّرين للوصول الى حقهم تبعاً لنصوص الدستور الأميركي الذي هو البطل الحقيقي للفيلم هنا. فالموضوع في هذا الفيلم الثاني يدور من حول مشروع مسيء للبيئة والطبيعة، يحاول سياسيون فاسدون تمريره، لكن اهل الريف بقيادة مستر سميث، يتطلّعون الى نسف المشروع وفضح اصحابه. ومن هنا، ينتخبون سميث ممثلاً لهم في المجلس النيابي ويُفهمونه انه كعضو في المجلس يإمكانه ان يتكلم كما يشاء وبقدر ما يشاء، وصولاً الى إقناع الرأي العام، حتى ولو اضطرّ الى قراءة الدستور الأميركي كله. هنا، في هذا الفيلم ايضا، ثمة امرأة، وهي صحافية ايضاً، لكنها هنا وبعد محاولات اولية منها لاستغلال البطل وبساطته، سينقلب موقفها بقدر انقلاب موقف كابرا من المرأة، كما من المدينة، بين الفيلم والآخر. وهذا ما يخلق هنا حالة عاطفية تزيد من تعاطف الأميركيين مع القضية البيئية التي يدافع عنها سميث. هنا ايضاً بالتالي، ينتصر الخير على الشر ومنطق الريف على منطق المدينة، اذ ينتهي الأمر باعتراف الأشرار بشرّهم. ومن الواضح ان الانتصارين في الفيلمين معاً إنما كانا كناية عن انتصار روزفلت في معركته للنهوض بالوطن. ومن هنا، لا يعود غريباً ان يعتبر فرانك كابرا تبعاً لذلك مخرج الحقبة الروزفلتية بامتياز. ولد فرانك كابرا العام 1897 في قرية صغيرة تقع في جزيرة صقلية الإيطالية، ثم هاجر برفقة عائلته الى اميركا في العام 1903 ليصبح لاحقاً طالباً في معهد تكنولوجي. لكنه سرعان ما هجر الدراسة لينخرط في العمل السينمائي مساعداً وتقنياً وكاتباً. بعد ذلك التحق بالعمل التلفزيوني في بداياته، ليعود الى السينما مخرجاً حقيقياً بين 1928 و1939 بموجب عقد مع شركة كولومبيا، مكّنه من تحقيق بعض اهم افلامه في تلك المرحلة. بعد ذلك، حقق للحكومة الأميركية بضع شرائط دعائية خلال الحرب العالمية الثانية. ولقد اضعف هذا العمل مكانته السينمائية، ما أعاده الى التلفزيون في آخر سنواته، وهي السنوات التي انصرف فيها الى كتابة مذكراته التي تحدّثنا عنها اوّل هذا الكلام. [email protected]