«مفروزة» مكان لقاء جمع بين «إيمان»، كما سمى أهل مدينة الأموات إيمانويل، وبين العالم الآخر. العالم النابض بحب الحياة. راحت إليهم باحثة في علاقة الأحياء مع الأموات، بيد أنها سرعان ما انحازت لهؤلاء الأحياء المدهشين بخطابهم، جلدهم أمام قساوة الحياة، بعدهم عن كل نزعة نمطية، فلسفتهم في السعادة. أسرتها أم بسيوني المثابرة في جلستها أمام فرنها الذي «شكلته» في دقائق، سطوحي المتمرد العاشق الحرية، الشيخ خطَاب العازف في بقاليته، أبو حسني المقاوم الطوفانَ، عادل وغادة الباحثان عن السعادة... كلهم، كانوا يقبعون في المقبرة الكبيرة في مدينة الأموات الأثرية اليونانية في الإسكندرية، بنوا حجراتهم فيها واستعدوا للمقاومة، للحب، للغناء، للصبر... جاءتهم إيمانويل في زيارة «عابرة» مع عالم آثار، فبقيت أكثر من سنتين، بين رواح ومجيء، تصوّر الحي وناسه الذين امتلكوا قلبها، باتت واحدة منهم، تعلمت القليل من العربية والتقطت أحلى ما فيهم وأثمن ما يمتلكون: الحرية والفرحة ورغبة العيش. صورت إيمانويل سنوات اختصرتها في ساعات وزعتها على فيلم في خمسة أجزاء: «آه يا ليل»، «قلوب»، «حا نعمل إيه؟» «إيد الفراشة»، و «الدش» (الصحون اللاقطة). حكاية إيمانويل ديموري مع حي «مفروزة» طويلة طويلة، روتها لنا في مقهى باريسي، هذه مقاطع منها. «مفروزة»، جاب بأجزائه الخمسة مهرجانات عدة وحصد جوائز في لوكارنو وبرلين والأرجنتين... يحكي علاقات إنسانية غنية غير مرتبطة بلحظة، إنه بحث في الشغف والصداقة، في الفرح والقلق، في التضامن والحرية. إيمانويل كانت تقوم ببحث عن علاقة الأحياء مع الأموات، جالت في أماكن متفرقة ترصد التحولات: كيف يغير التلفزيون العلاقة مع الذاكرة مثلاً، كيف تتغير علاقة الإنسان مع ماضيه مع الإيمان ومع الموت. وصلت إلى الإسكندرية وإلى مقابر المدينة اليونانية الأثرية المجاورة للميناء. هناك، وقعت إيمانويل التي لا تتكلم العربية على سكان أحياء «شعرت معهم بشيء خاص بي، جديد. نمط علاقة مختلف، في الوقت نفسه الذي كنت أصوّر، كنت أتحادث معهم وكان بوسعهم النظر إليّ وطرح الأسئلة. الكاميرا بينهم تسرح بحرية، لم أكن مختبئة وراءها». لكن عبارة قالها عادل وغادة «من الأفضل تصوير الحياة هنا عوضاً عن الحديث عن الموت»، وسماعها بعد انتظار شِعر عادل، جعلا إيمانويل التي غدت إيمان، تتيقن من عودتها إلى الحي ومن توجه فيلمها نحو وجهة أكثر حميمية. رجعت بعد شهر وبدلاً من البقاء شهرين بقيت سنتين، كانت تعيش في مكان مجاور وتقضي يومها في الحي مع الكاميرا «كنت أتساءل عن سبب شعوري بالراحة هنا على رغم قساوة الظروف؟ في لحظة ما أحسست بأنني أحقق الفيلم لأدرك سبب شعوري ذاك. جذبتني العلاقات الإنسانية واستقلالية التفكير والبعد عن النمطية. «مفروزة» مكان نحن فيه تحت أنظار الآخرين طوال الوقت، مكان يتشارك فيه الجميع كأسرة واحدة، نتصرف فيه بتلقائية وبساطة، مكان هو الأكثر أماناً في الإسكندرية». فضيحة لمصر؟ تركز الأجزاء الخمسة على شخصيات بعينها من الحي نتابعها في مقاطع من حياتها اليومية حتى حين لا تفعل شيئاً، حين تجوب الشوارع بلا هدف، كل نهار تحدّ جديد للبقاء، وكل ليل غناء وبهجة. لم تصور إيمانويل من كان يرفض ولم يكن هدفها تصوير الحي بل ناسه «التقيت في البدء بغادة وعادل مع عالم الآثار الفرنسي وفوراً بتنا أصدقاء، أم بسيوني ذهبت لملاقاتها لأنها ترى الأموات في أحلامها، في الطريق التقيت أبا حسني الذي كان لا ينفك يجفف الماء الذي ينبع في بيته، أردت في البداية الحديث مع الشيخ خطاب عن الأموات كونه شيخ المسجد، ففاجأني بحديثه»، سألني «ما أثر نشأتك في جو ديموقراطي في تجربتك الشخصية؟» أدرت معه نقاشات فلسفية، «جعلني أرى أموراً بطريقة مختلفة ودعاني إلى المسجد». في «حا نعمل إيه؟»، الجزء الثالث من «مفروزة»، نشاهد الشيخ خطاب في المسجد يروي قصة مريم والحضور يصغي. إيمانويل جالسة بعيداً تصور، كانت مستعدة للمغادرة إذا رفض الآخرون وجودها، هكذا اشترط عليها الشيخ، لكن أحداً لم يضايقها. في «آه يا ليل» نسمع شاباً يحتج «الفيلم فضيحة لصورة مصر، للفقر...». تقول إيمانويل عن ردود الفعل «بعضهم كان عدوانياً عنيفاً بعض الشيء» لكن ذلك لم يدم طويلاً، كنت أقول «لم أجئ لتصوير الجرذان ولا أكوام النفايات، بل الناس ومقاومتهم. كنت باستمرار متمسكة بالشرح لهم». لعل هذا سبب طول المشاهد، تريد لها أن تدوم زمنها في الواقع، كمشهد أم بسيوني وهي «تبني» فرناً للخبز مما تجده حولها في منطقة تكومت فيها النفايات. تعلق إيمانويل «لو صورت المشهد في ثلاث دقائق لرأينا الزبالة فقط، ولكان هذا أكثر ما علق في ذهن المتفرج، فيما لو أتحت الزمن للتعرف إليها للارتباط بها لأدركنا قوة إصرارها ومقاومتها وعلاقتها مع ابنتها». رغبة وحنان تقنياً، لم تحضر المشاهد، كانت إيمانويل مع مترجم تسجل صوتاً وصورة بكاميرا محمولة «كنت أسجل ملاحظاتي مساء وأرى حينها إن كانت ثمة إمكانيات لمشهد. كانت الكتابة تمنحني أفكاراً لمشاهد وليس لتكلف حدث ما». تعطي مثالاً مشهد البحر في الجزء الثالث «حين حكى عادل عن الحب والجسد والرغبة، طرح أسئلة حقيقية عن الموضوع، سجلتها ورأيت فيها إمكانية مشهد متسائلة في الوقت نفسه عن المدى الذي يمكن أن أصل إليه في هكذا مشهد؟ بمعنى إبراز أجسادهم، الحنان في حركاتهم من دون أن يكون ذلك محرجاً لهم. اقترحت الذهاب إلى البحر حيث لا يذهبون في العادة. شعرت بأنهما سيصلان هناك إلى لعبة الجسد. لم أعطِ أية توجيهات، اكتفيت بشرح الخط العام، رغبت فقط بفتح مجال، وكان عليهم أن يجدوا بأنفسهم حريتهم في المشهد». في مشهد حسن «سطوحي» الهارب من الخدمة العسكرية كنا نقتل الوقت ونلعب الدومينو ننتظر أن يحدث شيء ما». بهرت إيمانويل بأهل مفروزة، حي العشوائيات كما يطلقون عليها، بوعيهم السياسي وذكائهم الاجتماعي وهي تظهر في «الدش» (مفروزة)، إسلاميين قدموا إلى الحي وأرادوا كسب ود الناس عبر توزيعهم وجبات الطعام والسيطرة على المسجد. ترفض إحداهن قبول الوجبة فإذا قبلت شيئاً عليها الرد يوماً وهي لا تستطيع، تواجه أحد الملتحين «لا تعطِ لشعورك بالواجب بل لتسعد نفسك». ترك أهل الحي المسجد للملتحين وبعد ثلاثة أشهر لم يبق من مستمع، وطلب الناس من الشيخ خطاب العودة. «النهاية كالبداية، قدموا بسهولة ورحلوا بسهولة» كما شرحوا. وعلقت إيمانويل في حوارها معنا «المصريون يبرعون في سياسة النفس الطويل». ليس الناس وحدهم من شد المخرجة لتحقيق شرائطها الخمسة التي تجاوزت الاثنتي عشرة ساعة، فالحي مهم أيضاً فهو «الرابط وعبره تتشكل العلاقة، إنه السبيل لنكون مع بعضنا بعضاً. الفيلم يحكي عن أشخاص، تشاركهم في هذا الفضاء. والحي مكان للمشاركة يرسم فيه كل فرد طريقته في الكون مع الآخرين. كل واحد فريد من نوعه وليس صورة لفرد أو لجماعة محددة. هنا لا يمكن أحداً أن يحل مكان آخر وفي هذا مكمن القوة. لقد تخلى حسن عن العنف وبدأ بحب الآخرين في حي نجبر فيه على حب بعضنا بعضاً كي نقاوم. حي غير شكلي، فيه ثقافة مغايرة لثقافة النظام. حين كنت في مصر لم تكن هناك ثقافة معارضة، لكن في الحي كانت فكرة المقاومة موجودة». نشعر بالتماع في عينيها وهي تروي قصصهم لساعات. انتهت من العمليات التقنية للفيلم 2010 وعرضته عليهم في مارس 2011«كنت قلقة جداً وكانوا سعداء جداً». قالوا «إحنا حلوين كممثلين». هم وهي لا يختزلون الفيلم في التوثيق بل كما عبر عادل بعد مشاهدته له «الفيلم لا يعطي صورة عن واقع ما بل هو قصص إنسانية في حميميتها». بعضهم طلب في البداية رؤيته على انفراد وآخرون كالشيخ خطاب أراد رؤيته مع الجمهور للنقاش معه. أُخليت «مفروزة» ويعيش أهلها الآن في مساكن شعبية على أطراف الصحراء، فهل تراهم سعداء؟ ترد إيمانويل «لا أستطيع التعبير عنهم ولا أسمح لنفسي بالقول إن كانوا سعداء أم لا!» من الناحية العملية «الماء أخيراً يصل إلى البيت، وأخيراً... لا جرذان» لكنهم الآن في منطقة معزولة، وهذا يغير نمط الحياة. البعد متعب جسدياً فمكان العمل ليس على بعد خطوات كما كان في السابق، لا عمل حقيقياً الآن. اقتصادياً هم أكثر فقراً، اجتماعياً لا يسلم الجيران أحدهم على الآخر. الحدود بين الخاص والعام تشكلت ولا مكان خارج الشقة، فقبلاً كانوا لا يغلقون أبوابهم، الآن لا أمان بعد التاسعة ليلاً...». وتختتم إيمانويل «يشتكون طوال الوقت ولكنهم سعداء لوجود الماء. أرى أنهم افتقروا وصحتهم غير جيدة ويشعرون بالحنين إلى الجبل ولكن ليس لدي الحق بقول ذلك!». وكما غنى أهل مفروزة «عجبي لدنيا العجب/ طبعك ما لوهش أمان».