في أيار (مايو) 2011 يوم منح وزير الثقافة الفرنسي السابق فريديريك ميتران باسم فرنسا، المخرج التونسي الكبير نوري بو زيد شارة فارس من وسام جوقة الشرف - أعلى درجة في الأوسمة الثقافية الفرنسية -، لم يكن قد مرّ أكثر من شهر على تعرّض بو زيد للضرب على يدي متشدد أراد أن يُسكت صوتاً ما فتئ يتجرّأ على الكثير من المسكوت عنه في المجتمع التونسي منذ اول أفلامه «ريح السد» (1986). يومها شدد ميتران على مسيرة بو زيد الفنية الطويلة في خدمة السينما الطموحة والملتزمة، وتحدث عن حريته الواسعة الاطلاع ورفضه لكل أنواع الرقابات، ودوره في الإشعاع الذي قدمه لسينما المغرب العربي في العالم. ولم تفت ميتران الإشارة الى المعارك السياسية الطاحنة التي فتحها بو زيد ضد الاستبداد في بلاده، وانتهت بسجنه، لتتواصل اليوم في صيغ أخرى من بينها تهديده بالتصفية الجسدية... ولكن، مثلما لم يستطع السجن في عهد النظام السابق منع كاميرا بوزيد من الدوران، كذلك لم تستطع التيارات السلفية في زمن الثورة إرهاب مخرج عنيد وفيّ لمبادئه، فكان أن صوّر فيلم «مانموتش» في تحدٍ صارخ لهؤلاء. «الحياة» التقت نوري بو زيد في مهرجان ابو ظبي حيث عرض فيلمه الذي نال عنه جائزة أفضل مخرج عربي، وسألته عن الفن والثورات بين أمور أخرى. بعد تعرضك للضرب على أيدي متشددين في تونس، حققت فيلم «مانموتش» الذي يحمل رسالة واضحة ضد هؤلاء. من أين تستمد جرأتك؟ - جرأة الفيلم ليست أعلى من نبض الشارع التونسي الذي ينتقد اليوم بقوة كل صنوف التطرف. قلت في نفسي يريدون أن يقتلوني فليفعلوا، لكنني لن أسكت. يبدو الفيلم وكأنه ينعى الثورة التونسية. الى اي حدّ هذا صحيح؟ - في الأغنية الختامية نوع من الحزن. ولكن الأحداث مرّت بسرعة كبيرة، ولا بد من الانتباه الى اننا بدأنا تصوير الفيلم في مثل هذه الأيام من العام الماضي. حينها كنا قد اكتشفنا ان «النهضة» فازت بالانتخابات، وكانت المفاجأة بالنسبة الينا كبيرة جداً. رحنا نتساءل كيف صعدوا الى الحكم، ولماذا خسر الشباب الذين قاموا بالثورة معركتهم. وتبين لنا ان من جملة أسباب الإخفاقات ان «النهضة» كانت الأكثر تنظيماً، وأن نحو 3 ملايين ناخب لم يسجلوا أصواتهم، إضافة الى الفراغ الكبير... كان الناس في حاجة الى حزب وسطي معتدل، ولكن لم يكن لهم هذا. الآن المعطيات تبدلت، وصار هناك حزب قوي اسمه «نداء تونس» يواجه حرباً شعواء لإيمانه بقيم الديموقراطية وتداول السلطات ولجذبه عدداً كبيراً من المنتسبين. ثم ان الناس لا يقبلون الخطاب القديم، وهناك حرية تعبير موجودة في وسائل الإعلام، وليس برنامج الدمى les guignoles إلا تعبيراً عن هذه الحرية. صحيح يريد السلفيون و «الإخوان» القضاء على هذه الأصوات، كما انهم حاولوا الهيمنة على تلفزيون الدولة وصحف الدولة، لكنهم واجهوا مقاومة، من دون ان ننسى الاخطاء الكبيرة التي ارتكبوها بحيث باتوا مجبرين على تقديم تنازلات، خصوصاً بعد الهجوم على السفارة الأميركية. قبل الثورة هل تصنّف فيلمك ضمن أفلام الثورة؟ - لا ادري. أخشى من ان أُتهم بركوب الموجة، خصوصاً ان موضوع الفيلم سبق الثورة، كما انه لم يكن ممكناً التصوير في زمن التغيرات من دون ان يطاول الفيلم اي تغيير. يمكن القول ان الثورة أعطت الفيلم دفعاً آخر، خصوصاً ان الموضوع اليوم صار متداولاً في الحياة اليومية بما ان الحوار السياسي صار جزءاً من يوميات التوانسة، خلافاً لما كان عليه الوضع أيام الرئيس السابق بن علي. الفيلم كان معدّاً للتصوير في القاهرة، بعدما استمدّيت الفكرة من حادث واجهته كاتبة السيناريو في الاسكندرية، لكنك لم تُمنح إذناً لذلك. حدّثنا عن هذه التجربة؟ - صحيح، كتبت السيناريو انا وصديقة روائية كانت معي في مهرجان الاسكندرية وتعرضت لتحرشات ومضايقات في الشارع عندما دخلنا الأحياء الشعبية. قلت لها لم لا نصوّر فيلماً حول المرأة والحجاب انطلاقاً مما واجهته، لكنّ الأزهر في مصر رفض الموافقة على المشروع، وكذلك رفضت نقابة مخرجي السينما في مصر. ولما اندلعت الثورة في تونس، قلت لم لا اصوّر الفيلم في بلدي؟ الموضوع الذي لم يكن صالحاً في تونس قبل الثورة أصبح اليوم صالحاً؟ - نعم، لأن الإسلاميين، كلّفوا السلفيين الذين يعتبرونهم أبناءهم مهمة التعدّي على النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب. فمثلاً مشهد الشاب الذي ينتفض على الفتيات لإجبارهن على ارتداء النقاب لم يكن مكتوباً في السيناريو، بل أضفته إليه بعدما سمعت على لسان أكثر من فتاة في الحي الذي تمّ فيه «الكاستينغ» - وهو حيّ البحيرة الذي يعد من أرقى الأحياء في تونس - حجم التعدي الذي يتعرضن له من السلفيين. لكنني لم اكتف بما سمعت، بل حرصت على ان أكون شاهداً على هذه الممارسات. ولا مبالغة في القول انني نقلت مشهد تهديد السلفي للفتيات، كما رأيته بعيني. كانت هذه الممارسات فاضحة في الفترة الاولى من ظهور السلفيين في تونس. يومها كان المظهر الاجتماعي مقياساً لمعرفة حجمهم وقيمتهم في البلاد، من هنا راحوا يرهبون الفتيات ليفرضوا سطوتهم. هل يمكن القول ان تناول الفيلم لقضية المرأة والحجاب هو نوع من انواع مقاومة هذه الممارسات السلفية؟ - لا شك في ان الفيلم جاء ليقاوم هذه الممارسات. فالإسلاميون، من طريق السلفيين، أرادوا ان يكسروا المكتسبات التي ربحتها المرأة التونسية في السنوات الماضية. أرادوا ان يرهبوها، خصوصاً في الأحياء الغنية. طبعاً الفيلم رد فعل على هذا كله بجزء منه. فشباب «الفايسبوك» الذين خرجوا في التظاهرات، يؤمنون بأن حرية المرأة اساسية ليكونوا هم أحراراً. انا شاركت في تظاهرتين في 13 و14 كانون الثاني (يناير). كانت الحشود حضارية في شكل لم أره في تونس من قبل. شباب متنوّر ومثقف طالب بإنهاء التعسف. ولم يكن هناك إسلامي واحد. الإسلاميون جاؤوا في ما بعد وأخذوا السلطة لأن الآخرين لم يكونوا مهيئين. الثورة بدأت حضارية جداً، ولكن عندما مُنح حزب «النهضة» والأحزاب الممنوعة رخصاً، حاولت «النهضة» ان تستغل الفرصة. في البداية، كنا سعداء بمشاركتها في الانتخابات ولم نكن نتصور انها تريد ان تنفرد بالسلطة. وهي بعدما نالت 35 في المئة من الأصوات، تحالفت مع حزبين، احدهما علماني والآخر ديموقراطي، وكونت 50 في المئة، وسرعان ما ابتعد عنها اولئك الذين تحالفوا معها. وهي لاحقاً أمام ضغط الشارع، قدمت التنازل تلو الآخر، وأرى انهم سيخسرون في الانتخابات المقبلة، لأنهم فشلوا على كل المستويات. انتُقد فيلمك لأنه لم يحافظ على الأمانة التاريخية، خصوصاً عندما صوّرت السلفيين خلال القصبة 2، علماً انهم لم يكن لهم وجود آنذاك. كيف تبرر ذلك؟ - كانوا موجودين في القصبة 2، ولكن كانوا يتصرفون كأفراد لا كجماعات. ففي القصبة لم تكن هناك تقسيمات سياسية واضحة. وكان ثمة كل شيء، والامور اختلطت ببعضها بعضاً. ثم اننا في هذا الفيلم، أمام حكاية روائية لا أمام قصة وثائقية. وفي الروائي استطيع ان اختزل الوقت. وعموماً من انتقد كان عليه ان ينتقد أيضاً المواجهة التي صورتها في الفيلم بين الإخوان والسلفيين، حين راح السلفيون يهددون الشاب الذي ينتمي الى «الإخوان» ويضربونه. ففي الحقيقة لم تحدث هذه المجابهة بين الحركتين، بل كانت من محض خيالي. لكنها وبعض الامور التي توقعتها في الفيلم سرعان ما ترجمت على أرض الواقع. فمثلاً احد السلفيين ضرب الشيخ مورو وهو داعية معتدل جداً في حزب «النهضة». بالنسبة إليّ كنت أدق ناقوس الخطر ل «النهضة» من السلفيين. وربما يكون في الفيلم خطأ سياسي او تاريخي. لا يهمّ. فأنا اقدم رواية لا وثيقة تاريخية، لكنّ المهم ان نحترم الاطار العام. تصوير تحت الحماية هل واجهت صعوبات أثناء التصوير، خصوصاً انك معروف بمعاداتك للسلفيين والإخوان؟ - بصراحة صوّرت الفيلم تحت حماية الحكومة التي ساعدتني بصفة غير رسمية. فبعد التهديد الذي تلقيته في نيسان (أبريل) الذي سبق التصوير، كان هناك تخوّف من ان تتكرر الحادثة، ولكن الحكومة على العكس أمّنت لنا سبل الحماية. لماذا هذا الانقلاب في الموقف منك؟ - لا ادري. كل ما اعرفه انهم قبلونا بعد نقاشات طويلة. ومن كان يهددنا في الأمس بات يحمينا. لماذا صنعت فيلماً عن الحجاب في زمن الثورة الذي يفيض بألف حكاية وحكاية؟ - الحجاب كان بالنسبة اليّ تحدياً سينمائياً مهماً في ما يتعلق بحرية المرأة التونسية. قبل الثورة هذه المسألة لم تكن مطروحة، ولكن مع صعود التيارات السلفية بات الامر ملحّاً. لقد صورت الفتاة المحجبة في الفيلم بكل محبة وتقدير وكنت متعاطفاً معها الى أبعد الحدود. وقد تعمدت ان أسير معها خطوة خطوة حتى يصبح ممكناً ومقبولاً من طرف الجمهور ان تخلع حجابها. تقول بطلة فيلمك في احد المشاهد: حجابي خيار شخصي لا خيار سياسي؟ -نعم، هذا ما اردت قوله، فأنا لا يمكن ان أقبل الحجاب كخيار سياسي. وفي الفيلم كانت هناك الحجة ونقيضها. كانت هناك مقاومتان تتشابكان. فتاة لا تريد ان تخلع الحجاب على رغم الضغوطات، وأخرى لا تريد ان ترتديه على رغم المضايقات. هي مسألة شائكة تعبّر بصرياً عن مسألة بالغة الخطورة. شاركت بالتمثيل في الفيلم من خلال دور موسيقي متجول يقتله السلفيون. وشاهدنا على طول الشريط غسيلاً تدريجياً لجثتك يقطع تطور الأحداث. فهل اردت من خلال هذا الدور ان تنعى الفن في زمن السلفيين؟ - لا ابحث عن الرموز في افلامي، كما لا احب السينما الواقعية. ما يهمني هو كيف قرأت انت كمتفرجة المشهد. اما انا فما اعرفه هو انني احب ان أصوّر موتي. ولا اعرف لماذا؟ ولا اخفي عليك انني صورت المشهد في ظروف قاسية ومرضت يومها، إذ كان البرد قارساً وغسلوا جسدي بالمياه الباردة، ولم أخش دخول المشرحة. كانت لديّ رغبة قوية في ان اعيش الموت، وبعدما انتهيت من المشهد شعرت انني أُنقذت من الموت. ماذا ينتظر الفنون اليوم في عهد الثورات؟ - للأسف الثورة لم يخرج منها تعبير فني يليق بها، كما انها لم تلد مواهب جديدة. فأنا والمخرج المسرحي الفاضل الجعايبي، لدينا العمر ذاته تقريباً، ونحن على رغم سننا هذه، قدمنا خلال الفترة الاخيرة من حكم بن علي الأعمال الأكثر طليعية في تونس... اعمالاً مهمة تنبض بروح الشباب من صنع مخرجين تجاوزا عمر الشباب. هو من خلال مسرحية «خمسون» وأنا من خلال فيلم Making off. كيف تقوّم واقع الفن بين عهدين: عهد بن علي وعهد ما بعد الثورة؟ - لا وجود لما يؤشر الى أي جديد. لكنّ الإيجابي ان حرية التعبير مصانة وإن كانت مفروضة اليوم فرضاً على حزب «النهضة» بعدما اصطدم بالحائط. الفيلم ليس بريئاً من رسالة سياسية. ماذا أردت ان تقول باختصار؟ - اردت ان أقول لحزب «النهضة» والسلفيين على لسان جميع التوانسة، وعلى رأسهم النساء: إن اردتم أن تقتلونا فلن تنجحوا.