قبل أيام قلائل احتفل العالم بعيد ميلاد الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا الثالث والتسعين، وقد اعتبر الاحتفال يوماً عالمياً من المجتمع الدولي، تكريماً لمسيرة المناضل الكبير، وفرصة للترويج للديموقراطية السلمية. هل يتوجب علينا والحالة هذه، في العالم العربي، ان نتوقف لحظات مع سيرة ومسيرة مانديلا، والتي هي بلا ادنى شك انتصار على الذات، وتيار مضاد لشهوة الانتقام، ودعوة للحقيقة والمصالحة. يرى الناظر المحقق والمدقق في الخريطة العربية، لا سيما في المواقع والمواضع التي انفجر فيها ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، وإن لم يحسم بعد ما إذا كان ربيعاً ام خريفاً، ان شهوة الانتقام وروح الثأر تكاد تلامس عنان السماء، ما يجعل الأمر قريباً من الثورات الدموية لا البيضاء، وإن بدأت كل تلك الحركات «سلمية سلمية» كما انشد المتظاهرون. «حينما خرجتُ من السجن كانت مهمتي تحرير الظالم والمظلوم، وقد يقول البعض انه قد تم انجاز ذلك، ولكنني اعلم ان هذا غير صحيح، فقد خطونا الخطوة الأولى فقط، على طريق أطول وأصعب. فأن تكون حراً لا يعني فقط ان تلقي بقيدك، لكن أيضاً ان تعيش بطريقة تحترم وتعلي من حياة الآخرين». بهذه السطور التي تشع كلماتها نوراً كان الرمز الإفريقي الأشهر نيلسون مانديلا يكتب نهاية سيرته الذاتية، خالية من مرارات الماضي تجاه الرجل الأبيض أو نظام الحكم العنصري في جنوب إفريقيا. أعظم ما في مسيرة مانديلا تواضعه وإنسانيته وصدقه. وهو إذا قال، كان لا بد من ان يصدقه الآخرون، لكنه أبداً ودوماً يتذكر «انه بشر». يكتب مانديلا: «لقد سرت ذلك الطريق الطويل نحو الحرية وحاولت ألا أتعثر، لكنني اتخذت خطوات خاطئة على الطريق، وقد اكتشفت السر، وهو انه بعد ان يكمل الإنسان تسلق تل، يكتشف ان هناك تلالاً أخرى كثيرة عليه تسلقها. ويضيف: «لا استطيع التوقف سوى لحظة لأنه مع الحرية تأتي مسؤوليات، ولا استطيع الإطالة لأن مسيرتي لم تنته بعد»... مع الحرية تأتي المسؤوليات، لا الفوضى والهدم والتشارع والتنازع، دوغمائياً كان ام سياسياً، عرقياً ام ثقافياً. ما المدهش والذي يخلب الألباب في تجربة الزعيم الإفريقي الكبير؟ الانتصار على الذات، لا سيما ان كل المقدمات التي عاشها، وسنوات السجن التي قضاها، كانت كفيلة بأن تجعله يباشر عمليات الانتقام المضادة. أليس الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، كما يرى الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز، والآخرون هم الجحيم، على حد تعبير نظيره الفرنسي سارتر؟ يكتب مانديلا عن طفولته، مسقطاً الكلام على بني جلدته اجمعهم: «الطفل الإفريقي يولد في مستشفى للأفارقة فقط، ويحمل الى المنزل في حافلة للأفارقة، ويعيش في مناطق الأفارقة، ويلتحق بمدارس الأفارقة فقط، ويركب قطارات الأفارقة ويؤمر في أي وقت من الليل والنهار بأن يُبرز تصريحه، وإذا لم يفعل ألقي في السجن، وتحد حياته القوانين واللوائح والعنصرية التي تعوق نموه». كيف يتأتى لإنسان ما ان يتحلى بروح الصفح والمغفرة في هذه الأجواء؟ أليست هذه معجزة لا يراها الكثيرون من مؤرخي حياة الرجل؟ في صباح 11 شباط (فبراير) 1990 كان مانديلا البالغ من العمر وقتها اثنين وسبعين عاماً، يستعد لمغادرة السجن الذي بقي خلف جدرانه سبعة وعشرين عاماً، على ان أكثر ما يدهش المرء رغبته العارمة في وداع سجانيه وعناقهم: «كان رجال كهؤلاء قد دعموا إيماني بجوهر الإنسان، حتى بالنسبة الى هؤلاء الذين أبقوني خلف الجدران لسبعة وعشرين عاماً... كنت قد أخبرت السلطات أنني أود وداع الحراس والسجانين الذين رعوني وقد طلبت ان يتواجدوا هم وأسرهم عند البوابة لأتمكن من شكرهم بنفسي. هكذا كان السجين العجوز يترفع عن الانتقام ويفسح في المجال للصفح والعرفان لبداية جديدة. منذ اللحظات الأولى التي أعلنت فيها نتيجة فوز مانديلا بمنصب الرئاسة في جنوب إفريقيا، رأى الرجل ان مهمته هي التوفيق وخلق الثقة. كان يعرف ان كثيراً من الأقليات وبخاصة البيض والملونين، كانوا يشعرون بقلق في شأن المستقبل وأراد ان يشعرهم بالأمان. ذكّر الناس مراراً بأن معركة التحرير ليست ضد مجموعة معينة أو لون معين لكنها ضد نظام طاغ. وفي خطاب التنصيب كان يؤكد: «إننا نتعهد ان نحرر شعبنا من استعمار العبودية والفقر والحرمان والمعاناة العرقية، ومختلف أنواع التمييز... لن يحدث أبداً أبداً ان تتعرض تلك الأرض الجميلة لطغيان احد على الآخر... فلتسد الحرية... وليبارك الله إفريقيا...». في عيد ميلاده الثالث والتسعين لا يزال مانديلا يؤمن بأنه «في وسعنا ان نغير العالم ونصنع منه مكاناً أفضل، وفي متناول كل واحد منا ان يحدث هذا التغيير». لكن يبقى شرط مانديلا الرئيس ماثلاً في الأذهان في كلمتين لا أكثر «الحقيقة والمصالحة». هل بلغت شهوة قلب مانديلا ثوار العالم العربي؟ * كاتب مصري