بمناسبة عيده الثاني والتسعين، لا يريد نلسون مانديلا تحية ولا تهنئة، ولا يريد بالخصوص منك أن تتوقف لحظة واحدة عن العمل. يريدك أن تتأمل في يديك الاثنتين وأن تسأل نفسك: ماذا لهاتين اليدين أن تفعلا في خلال ساعة واحدة من الزمن كي تعينا فقيراً، أو تنظفا رواقاً في ميتم أو ترتبا أثاثاً في مستشفى، أو تزرعا شجرة في بستان فلاح فقير، أو تغسلا ثياب رجل معدم. لا يا صديقي، لا تمد احدى اليدين الى جيبك لتسحب مالاً وتتبرع. فالمال ليس موضوع اليوم، يوم الثامن عشر من تموز (يوليو)، انما اليدان، انما الجهد الشخصي المتواضع لفائدة آخر تعرفه أو تتعرف إليه بهذه المناسبة، آخر لم يبتسم له الزمن كما ابتسم لك ولم يعامله الدهر بما يستحق. كان يمكن هذه الكلمات أن تُكتب بأي لغة من لغات الأرض، بلغات جنوب أفريقيا الرسمية الإحدى عشرة أولاً، حيث بات الثامن عشر من تموز (يوليو) يوماً وطنياً كتلك الأيام الكبرى في أي أمة، وكان يمكن أن تكتب كلماتنا هذه بلغات الأرض كلها حيث يصعب أن ينافس إنسان حي نلسون مانديلا في مدى وعمق سلطته المعنوية، وهيبته الأخلاقية، هو الذي أمضى 67 سنة يناضل في سبيل المساواة بين الأعراق والأديان والشعوب وأساساً بين البشر، هو الذي بقي 27 سنة في المعتقل، بعضها في السجن الانفرادي والعزلة المطلقة والبعض الآخر في الأعمال الشاقة، وما تبقى منها في جزيرة «روبن أيلاند» المرعبة، وكلها في مواجهة يومية مع أنواع التعذيب والإهانة، ليخرج من الزنزانة شيخاً جليلاً وقوراً مكللاً بالبياض، يدعو بهدوء وإلحاح الى المصالحة بين كل أبناء جنوب أفريقيا، مثيراً التعجب بل الاستياء بين أصحاب لون بشرته ورفاقه في النضال المرير ضد التفرقة العنصرية، والدهشة بين أفراد الأقلية البيضاء التي مارست تلك التفرقة بالعنف الذي نعرف والتي عزلته ما يقرب من ثلاثة عقود في السجن. واننا لنذكر تماماً تلك الأيام العصيبة من الانقسام العمودي الرهيب بين البيض والسود حين خرج مانديلا من سجنه متناسياً سنوات العزلة، متجاهلاً تحفظات الرفاق، متجاوزاً عداء الخصوم وداعياً بإصرار وهدوء الى المصالحة الشاملة بين الجلاد والضحية، بين السجَّان والسجين، بين الأسود والأبيض، مقفلاً بعزم عهود الطغيان والتجبّر، واضعاً دعاة الثأر في موضع الاتهام، مبعداً أنصار الانتقام عن محيطه المباشر حتى من كان منهم من أقرب الناس اليه، ومؤسساً لفكرة أن بناء المستقبل يقتضي المقدرة على نسيان الماضي وأن الانتصار على الظلم يتم أولاً بمد اليد نحو الجميع بهدف تحقيق مشترك للعدالة والمساواة وبناء مجتمع جديد. لذا، لأن هذه الدعوة الجريئة، وغير المسبوقة، تضرب عميقاً في أخلاقيات بشرية تحتاج لها اليوم العشرات من المجتمعات الإنسانية المتخاصمة والمتحاربة، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة وبالإجماع اعتبار الثامن عشر من تموز (يوليو) يوم نلسون مانديلا العالمي. ولهذا السبب، بات نموذج مانديلا في الإصرار على التفاهم مع الخصم بعد عقود، بل قرون، من الخصام، مثالاً عالمياً يجدر بالكثيرين التوقف عنده. ولما أتيح لي أن أقابله للمرة الأولى غداة خروجه من السجن قال لي، وبعض رفاقه كان لا يزال يتحدَّى أفكاره، يشكك حيناً في وطنيته وأحياناً في حكمته، «ان الحرب تتم بالنضال حتى المسلّح منه، أما الخروج من حال الحرب فلا يتم إلا بالتفاوض والتسامح». وان نحن نظرنا اليوم في أحوال جنوب أفريقيا، لبدا لنا بوضوح ان مشاكل هذا البلد الكبير لم تحل جميعاً، بل ان بعضها قد تفاقم أخيراً، ولكنه يصعب على أي مراقب أن ينفي أن موقف مانديلا التاريخي قد وفّر على ذاك البلد حرباً أهلية شاملة كانت ستدمّره وتمزّقه بالكامل. كما ان موقفه الشجاع، بعد ترؤسه بلاده لولاية واحدة (بينما عموم سكان البلد كانوا يريدونه رئيساً ولو لولاية ثانية كان الدستور يسمح له بها) شكّل نموذجاً فريداً لرجل يبتعد عن المنصب الأول بكامل رضاه، وعلى رغم إلحاح شامل من أبناء بلده في عصرٍ يتعدد فيه «الرؤساء مدى الحياة»، وتوريث الأبناء والأحفاد بعد الآباء والأجداد. كان يمكن أن نكتب هذه الكلمات بأي لغة، ولكننا نكتبها بالعربية بالذات لأن مانديلا، في قعر الزنزانة، لم ينسَ يوماً أي طرفٍ عربي أبدى اهتماماً ببلاده أو دعماً لنضال شعبه ضد التفرقة العنصرية. بل انه كان يذكر بالاسم عرباً، من القادة ومن الناس العاديين، أيّدوا نضاله ووصلت أصداء مواقفهم الى أبواب سجنه. كان وفياً في السجن، وكان أكثر وفاءً بعد خروجه منه، في زمن عزّت هذه الصفة وندرت. بل ان مانديلا ما اهتم فقط ببلده بل تبنّى أيضاً قضايا ضحايا الظلم في العالم وشعب فلسطين في مقدمهم مصرحاً يوماً «بأن حريتنا لن تكون يوماً كاملة طالما بقي الفلسطينيون يرزحون تحت نير الاحتلال». كما رفض مانديلا أن تشترك بلاده في أية عقوبات على أي بلد عربي أو اسلامي كان قد ناصر النضال ضد التفرقة العنصرية أو السيطرة الاستعمارية. أولاً يستحق رجل كهذا أن نستجيب جميعاً، ونحن أبناء الضاد أولاً، وان نتوقف لحظة وننظر في يدينا الاثنتين لفترة ساعة لنتساءل: كيف يمكنهما أن تتحرَّكا لنصرة مظلوم، أو مساعدة فقير، أو دعم منتفض؟ * وزير سابق للخارجية في الجزائر ** وزير سابق للثقافة في لبنان ومبعوث سابق للأمم المتحدة الى العراق